لا تبدو نهاية قريبة للصخب الثقافي حول قصيدة النثر من المتحمسين لهذا اللون الإبداعي الذي يتصدر المشهد الشعري العربي ومن الرافضين أيضا، وإن سمح هؤلاء الرافضون بنشر نماذج من هذا الشعر فإنهم في الوقت نفسه يرونه إبداعا قليل القيمة أو شعرا إلا كثيرا. فالبهاء حسين أحد شعراء قصيدة النثر يرى أنها عانت كثيرا من النبذ، وأن شعراءها عاشوا ضحايا قصائدهم التي يجري الإفساح لها الآن على استحياء. ولكن الشاعر حسن طلب يعتبرها ضجيجا أو "كومة حصى" أراد أن يكشفها للناس في كتاب "صيد وحيد" الذي أصدرته مجلة "إبداع" مع عددها الجديد. ومجلة "إبداع" يرأس تحريرها الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي الذي رفض قبل سنوات الاعتراف بقصيدة النثر ثم سماها "القصيدة الخرساء" أما طلب وهو مدير تحرير المجلة فقال في مقدمة الكتاب: إن الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش "اعتصم بالتقية فلم يصرح برأيه السلبي في قصيدة النثر دفعا لشرور العصابات وغوائل المافيا من أنصارها"، مشددا على أن الشعر فن موسيقي. ورغم إيمان طلب بأن موسيقية الشعر لا تتحقق إلا بالتفعيلة فإنه يؤمن أيضا بحرية الشاعر "في الخروج إلى أرض لم تطأها قدم وله أن يقلب تربته كما يشاء ويلقي بذوره حيث يريد ولكن بشرط وحيد هو ألا يطلب إلينا أن نشهد بأن الثمرة حلوة إلا إذا وجدناها كذلك". ويضيف طلب: "لعلي أردت بهذا الكتاب أن أكشف للناس عن كومة الحصى المسماة بقصيدة النثر". ويعترف البهاء حسين بأن قصيدة النثر ولدت "من غير قابلة ولهذا جاءت بأوشابها وفوضاها وحريتها الفائقة التي أغرت الصغار بانتهاكها... والآن بعد أن هدأ الغبار أصبح لزاما أن نستعيد الجزء الصالح من الجلبة". محذرا أن هذه القصيدة تبدو كأنها تمتلك "اليقين الذي حاربها به خصومها، اليقين المطلق الذي يحتكر ذوق المستقبل ويتحدث باسمه". ويقع كتاب "صيد وحيد" في 122 صفحة متوسطة القطع ويضم قصائد 19 شاعرا منهم محمود قرني وإبراهيم داود وجيهان عمر وحسن خضر وعاطف عبدالعزيز وعماد أبوصالح وعماد فؤاد وفاطمة قنديل وفتحي عبدالسميع ومحمود خير الله وميلاد زكريا. ويحتفي كثير من القصائد بتفاصيل صغيرة وأمور هامشية مقارنة بقضايا وأدوار كبرى لعبتها القصيدة قديما حين كان الشاعر جهاز إعلام للدولة أو القبيلة. ففي قصيدة "عندما تكون الملابس في المتجر" يقول تامر فتحي: "من يدرك حزن الملابس حين تكون وحدها مصلوبة بالدبابيس وهي تدخل مرحلة الكي والطي والمصابيح الملونة.. الملابس لا تعشق المانيكانات.. الشماعات هي تعشق الخروج وتكره الزجاج.. وتحسد الملابس الطليقة.. فمنذ كانت في المصنع وهي تشتهي الهروب.. تشتهي الملابس رائحة العرق.. لم تكن المانيكانات تتصبب عرقا ولم تمتلك رائحة قط.. تشتهي سخونة الجسد عند الانحناء.. وعند الجلوس... هؤلاء الذين يشاهدون دهشتها عندما تمشي في الشارع لأول مرة.. تتهجى الأسماء.. وتشم الروائح.. تحفظ الوجوه.. وتسمع الأغنيات.. وتلمس ملابس الآخرين.. هؤلاء الذين يسمعون شهقتها عندما تفاجئها بقعة طعام.. أو القهوة أو الحبر لأول مرة. هؤلاء ليسوا بكثير". أما علاء خالد فيقول في قصيدته "حياة تسير على جدران": "مع كل جهاز كهربائي يضاف إلى أرشيف البيت تضاف وصلة جديدة من الأسلاك سنة بعد أخرى تكثر الثقوب في الحائط، المسامير المنسية لوصلات قديمة ولأطراف مبتورة.. الأرض وهي مفروشة بتلك الأغضان الملتفة من كل غرفة تخرج فروع دقيقة... في صمت الليل ونحن نائمون.. هناك حياة تسير على الجدران وفي الزوايا أزيز كصوت الحقول.. أي بيت مهما تعالت جدرانه مكشوف أمام نقطة حنين قادمة.. كلما فكرت أن أترك هذا البيت تراجعت أمام هذا النسيج الحي من الأسلاك". وأيا كان رأي رافضي قصيدة النثر من بعض الشعراء أو القراء أو النقاد فإنها شقت لنفسها مجرى يتفاوت عمقه وأصبحت حقيقة لم ينكر حضورها حتى الذين سبق أن نبذوها، ولعل هذه المختارات تكون فرصة لتقييم ما بلغته قصيدة النثر من عمق أو فوضى. ويقول البهاء حسين: "إن هذا الكتاب بحكم مساحته المحدودة ضاق بقصائد أخرى سوف تتسع لها طبعة تصدر في يناير المقبل متضمنة شهادات للشعراء إلى جوار القصائد".