بحذر شديد تعامل حافظ الأسد في البدايات مع نظام الملالي في إيران، لكن العلاقة بين الطرفين كانت تزداد قوة ومتانة شيئاً فشيئاً، وتبعاً لتطور الأحداث والمصلحة التي رأى الأسد أنها الأهم بالنسبة له ولطائفته ولاستمرار حكم سورية في عائلته من بعده. وبكل الحذر الذي بدا صفة ملازمة للأسد الأب بقيت علاقته مع إيران قائمة على التلاقي السياسي وليس الطائفي منذ قبل الثورة وحتى عام 1982، فلم يكن الأسد واثقاً، حتى من الناحية السياسية من آيات الله في طهران، ف»فضيحة إيران – كونترا» عام 1986 التي كشفت عن صفقة تسليح إسرائيلية إيرانية بقيمة 100 (مليون دولار) بدءاً من عام 1980 (تاريخ اندلاع حرب الخليج الأولى) – والتي كشف الأسد نفسه خيوطها – هزته بعنف، وشككته بقوة في إمكان الاعتماد على إيران في المواجهة الإسرائيلية مع ملالي لا يتورعون عن صفقات مشبوهة مع العدو، كما أن حادثة خطف السفير السوري في طهران «إياد المحمود» (في 2 أكتوبر 1986) من قبل جماعة إيرانية شيعية متطرفة يقودها «مهدي هاشمي» عززت المخاوف والريب لدى الأسد من ملالي الشيعة. لحى شعثاء لم يكن الأسد في حقيقة الأمر يُسر لرؤية اللحى الشيعية الراديكالية الشعثاء في جبال لبنان وشوارع طهران، بل إنه كان يخشى أن يراها في شوارع دمشق؛ فهي تستثير مخيلته لتسترجع أحداث الثمانينات الدموية، وتنقله من جهة أخرى إلى مشهد انقضاض الملالي على شاه إيران العلماني. وبحساباته السياسية – في الاستفادة من النزعة الدينية العنيفة للعب أدوار ونفوذ في المنطقة، وغريزته السياسية – قرر ألا يسمح للملالي في طهران وتابعيهم في لبنان بتصدير ثورتهم إلى دمشق. كان هذا أحد الأسباب التي جعلت الأسد حتى التسعينات لا يسمح لأي من أعضاء حزب الله وقياداته بدخول سورية؛ إذ كان يعرف جيداً أنهم خمينيون يؤمنون بتصدير ثورة إمامهم في طهران، فضلاً عن أن «أساليبهم تمحو خط التمييز الفاصل بين نضال العرب المشروع من أجل التحرر الوطني، وبين الإرهاب»، وإن كان يريد الاستفادة «من كل ذرة من التصلب الشيعي» في مواجهة إسرائيل في جنوبلبنان. كان الأسد يقظاً للغاية، يحاول بكثير من الانتباه منع التبشير بالتشيع لمنع أفكار الثورة الإيرانية من التقدم إلى بلاده، وكان بانتظام وإصرار يلجم التواجد الإيراني، وفي كل مرة يشعر بتزايد النشاط الإيراني الشيعي يعمد إلى اتخاذ إجراءات لمواجهة تغلغل المؤسسات الإيرانية في المجتمع السوري، كإغلاق المعاهد والمؤسسات وحتى المستوصفات الممولة إيرانياً دون أن يقدم الأسباب، وباستمرار كانت تحركات السفير الإيراني والملحق الثقافي ومستشاره توضع تحت المراقبة، كان الأسد حازماً في ذلك، فقد كان دقيقاً في إدارة العلاقة مع إيران الشيعية: محور سياسي خالص يلعب دور توازن في القوى الإقليمية لمصلحته ومصلحة النظام الإيراني، وليس أكثر من ذلك. قائد المسار بينما كان نظام الأسد يصارع من أجل البقاء إبان أحداث العنف التي اندلعت في المدن السورية، وبعد نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية وأثناء أزمة الإخوان المسلمين أنشأ «جميل الأسد» شقيق الرئيس عام 1981 جمعية إسلامية في مدينة اللاذقية لنشر الفكر الشيعي باسم «جمعية المرتضى الإسلامية»، غير أن الجمعية التي لم تكن تحمل أفكاراً شيعية صرفة، كانت تحاول أيضاً توسيع نطاق النفوذ العلوي في سورية، فعمد جميل الأسد إلى افتتاح مقرات للجمعية في مختلف أنحاء سورية، وركز بشكل أساسي على القبائل في منطقة درعا والجزيرة ومناطق الأكراد في منطقة القامشلي، وفي مدينة اللاذقية وقرى العلويين. ما كان جميل متديناً، لكنه كان أقل علمانية من أخويه (حافظ ورفعت)، وسمحت له ميوله الطائفية الدينية بالتفكير في جمعية دينية تبسط له النفوذ السياسي، أي إنشاء «تجمع سياسي وراء واجهة دينية»، كان زعيم الجمعية يسعى بشكل خاص إلى علونة البدو والمزارعين من الجزيرة والمناطق الصحراوية وشبه الجدباء من حمص وحماة «بحجة أن سكان هذه المناطق كانوا في الأصل علويين، واضطروا تحت ضغط السلطات العثمانية أن يصبحوا سنيين». عملت الجمعية بصورة علنية، وعقدت ندوات واحتفالات ومهرجانات في مختلف المناطق السورية، ورفعت يافطات الجمعية في المدن السورية، وفي معاقل شديدة التعصب ضد الشيعة، وأصدرت وثائق وشهادات لمنتسبيها. الخلط خلط جميل الأسد بين الفكر العلوي والعقائد الشيعية ربما على نحو قريب من أفكار الشيوخ الإصلاحيين في الطائفة العلوية الذين كانوا يؤمنون بعودة الفرع (العلوي) إلى أصله (الشيعي الجعفري الإمامي)، وجمع حوله رجال دين منتفعين من دور الإفتاء في دمشق وبعض القرى والمدن السورية، وخلع على نفسه لقب «الإمام المرتضى»! وفي وقت لاحق ومع تزايد أتباعه أطلق على نفسه «قائد المسار» (بموازاة اللقب الذي أطلقه حافظ الأسد على نفسه «قائد المسيرة»)، لم تكن شخصيته الانتهازية ولا سمعته وممارساته السيئة وذائعة الصيت في الساحل تسمح بالقناعة به كقائد متدين، ولم يكن هناك شيء من مظاهر التدين يدل على «تدينه» سوى لحيته! لهذا لم يكن بين أتباعه سوى البسطاء والسذج والانتهازيين، الذين سيكون لهم دور لاحق وخطير في الغزو الشيعي لسورية. سرعان ما أقام الإمام المرتضى علاقات مع الإيرانيين، وحظي بدعم ملالي الشيعة في إيران، لكن النظام الإيراني الرسمي نأى بنفسه، فعلاقته بحافظ الأسد لا تسمح له بالتورط في هذا النوع من النشاط التبشيري ذي الخلفية السياسية، وكان الإيرانيون يحاولون الدخول – بطرق شتى – إلى المناطق التي توجد فيها الطائفة العلوية، مستغلين ما يعتبرونه تقرباً مذهبياً مع أبنائها. وفي كل الأحوال كان الإمام الجديد المرتضى يحظى بدعم مالي ومعنوي من قبل المرجعيات الشيعية في العراقوإيران التي اهتمت بشكل كبير بتشييع الطائفة العلوية وتصدير الثورة؛ وبالتأكيد لم يكن يتورع عن استثمار هذا الدعم للإثراء غير المشروع، وفي هذا السياق افتتح الإمام المرتضى أيضاً عشرات الحسينيات في أنحاء سورية، وبشكل خاص في الساحل السوري حول مدينتي اللاذقية وطرطوس. غض الطرف كان حافظ الأسد يغض الطرف عن الجمعية، وربما لأنه كان مستفيداً منها فيما يتعلق بالشق الاستخباراتي، ولكن بروز انشقاقات في صفوف الضباط إبان ظهور النقاش على خلافة الرئيس حافظ الأسد بعد تشكيله اللجنة السداسية لإدارة البلاد أثناء مرضه في نوفمبر 1983، حيث كان كثير من الضباط العلويين الكبار يرون في رفعت الشخص الأقوى ليحل مكانه أثناء مرضه، لم يخف جميل تأييده العلني له، ويشير البعض إلى أنه أثناء مرض الرئيس أعلن تأييده لرفعت الأسد من خلال قيام عدد كبير من أتباعه بمظاهرة أمام قصر الضيافة بدمشق تطالب بتنصيب رفعت الأسد، رئيسا للبلاد! وهذا يدل على أن الجمعية فعلياً تعود إلى رفعت الأسد؛ لهذا السبب وبمجرد أن أبل الرئيس من مرضه قرر حل الجمعية تقليماً لأظافر رفعت وإضعافه، فأصدر في منتصف ديسمبر 1983 قراراً بحلها. شكلت جمعية المرتضى لنشاط تبشيري «شيعي» سياسي واسع النطاق مورس على الأراضي السورية تحت سمع وبصر النظام، لكنه نشاط تبشيري لأغراض سياسية محلية، وليست إقليمية تتعلق بالمحور الإيراني أو هلاله الشيعي. زيارة مؤثرة في نوفمبر 1972 زار رجل الدين الشيعي حسن الشيرازي – المبشر الأصولي الذي سيكون له فيما بعد دور تاريخي في التشيع العلوي – لأول مرة جبل العلويين، «على رأس وفد من العلماء بأمر من المرجع الديني السيد محمد الشيرازي، وذلك لإجلاء الهوية الدينية للعلويين، مساهمة منه في إزاحة الضباب التاريخي الذي يلفهم، الذي كان منذ توليه مقام المرجعية يفكر في قضية العلويين، باعتبارهم جزءاً من العالم الشيعي الذي يشعر بمسؤوليته عنه». التقى الشيرازي بعدد من شيوخهم، وفي 24 شعبان 1392 اجتمع عدد كبير من شيوخ العلويين (74 سوريون، و6 لبنانيون) بتحريض من الشيرازي وقرروا إصدار بيان ينسب العلويين للشيعة الجعفرية الاثني عشرية، ويؤكد على أن «التسمية: (الشيعي والعلوي) تشير إلى مدلول واحد، وإلى فئة واحدة هي الفئة الجعفرية الإمامية الاثنا عشرية». طبع البيان في طرابلسلبنان بعد ثلاثة أشهر من الاجتماع، في ديسمبر 1972، وقدم له الشيرازي بفتوى تتضمن أيضاً التصريح بأن العلويين شيعة. انعطاف مهم أدت الأحداث بين عامي 1989 و1991 إلى انعطاف مهم في علاقة الأسد بملالي إيران وتابعيهم الخمينيين في لبنان وسورية، وجعلته يسمح بمزيد من النشاط وحرية الحركة والتبشير في المدن السورية لدعاة التشيع، ولكن الأسد – الذي خذله الإيرانيون لتوه في محنته عام 1986 – 1987 (قضية طائرة إل العال)، إذ كان مهدداً بالعقوبات الاقتصادية الدولية – أصبح على يقين أن علاقته بإيران علاقة تحدها المصالح السياسية المؤقتة وليست علاقة إستراتيجية، وعليه أن يلعب اللعبة على هذا الأساس. من الظاهرة إلى التيار نشط حسن الشيرازي وحتى مقتله سنة 1981 في الجبل العلوي بشكل لم يسبق له مثيل من نشاط الملالي الشيعة (الإيرانيين أو العراقيين) على الأراضي السورية، فإضافة إلى الدروس والمحاضرات التي كان يحرص على إلقائها ولا يدع مناسبة دينية واجتماعية للطائفة إلا ويشارك فيها فقد قام – وبمساعدة بعض شيوخ الطائفة المتحمسين لعودة الأصل النصيري إلى شيعيته (من أمثال الشيخ فضل غزال) – ببناء بعض المساجد والحسينيات في اللاذقية ومنطقة الساحل السوري. وبلغ احتفاء الشيرازي وتحمسه لتشيع الطائفة العلوية حداً جعله يؤسس حوزة علمية في مسجد «الإمام جعفر الصادق» الذي يقع في مقر «الجمعية الجعفرية» (التي كان قد أسسه الشيخ عبدالرحمن الخير سنة 1950) في مدينة اللاذقية، باسم «حوزة الإمام الصادق، وذلك بعد تأسيسه للحوزة الزينبية، لتكون قاعدة تبشيرية في الساحل السوري، على أساس أن خريجي هذه الحوزة الجديدة ينتقلون إلى الحوزة الزينبية لإكمال دراستهم، استمرت هذه الحوزة بضع سنوات، ودرس فيها مجموعة من خطباء المساجد، لكن الشيرازي عدل عن الفكرة ويبدو أنها لم تكن مجدية كما كان يأمل، فالعلويون لم يهبوا أفواجاً إلى مذهب الإمام جعفر الصادق! لقد انتقل التشيع العلوي في السبعينات من مجرد ظاهرة ليتحول إلى «تيار» واضح، وسواء أكان ذلك ناجماً عن دعم الأسد ذاته في تلك الفترة، أي لأسباب سياسية داخلية تتعلق بدمج الطائفة وإخراجها من عقائدها السرية، (وتراجع الأسد عن ذلك بعد الثورة الإيرانية، كما سبق وأوضحنا)، أم كان بدعم الملالي والشيوخ الإيرانيينوالعراقيينواللبنانيين فإن النتيجة هي أنه تأسس تيار شيعي واضح في أوساط الطائفة العلوية. ملالي مستأنسون 1990 1993 انعكست العلاقات مع حزب الله على حركة الشيعة والإيرانيين وملاليهم في سورية، وبمجرد حصول الاتفاق انعطف حزب الله إلى موجة الإرادة السورية، وسعى إلى تمتين العلاقة بالقيادة السورية وكسب ثقتها عبر الميل إلى دور سياسي وخطاب سياسي أقل تشدداً. وخلال هذه الفترة كانت قيادات حزب الله تتردد إلى دمشق لتحديد مواقفها والتنسيق مع القيادة السورية، وما بلغوا عام 1992 حتى سافروا جميعهم للقاء وزير الخارجية السوري حينئذ فاروق الشرع، ونائب الرئيس (في ذلك الوقت) عبدالحليم خدام مرتين في غضون بضعة أسابيع! وبجوار هذه الحركة السياسية بدأ يُسمح لأنصار حزب الله بالحركة في سورية، وبدأت القيود على النشاط التبشيري بالانخفاض، فالأسد ما زال يرى واجباً عليه إخراج الطائفة العلوية من عزلتها العقدية، التي كانت قد استجابت بشكل واضح لحركة التشييع بوصفها حركة دينية إصلاحية في الطائفة، وكان يجد في الفكر الشيعي حلاً للطائفة، ولكنه كان يرى فيه أيضاً تهديداً له في الوقت نفسه! ولا يبدو الأسد محبذاً للفكر الديني أساساً.
ترصد دراسة "البعث الشيعي في سورية 1919 2007" الصادرة عن المعهد الدولي للدراسات السورية، كيف تحول التشيع في سورية ليصبح ظاهرة وتياراً له نشاطاته العلنية مستفيداً من التسهيلات التي قدمها لها رأس النظام في سورية لتلاقي مصالح الطرفين. "الوطن" تسلط الضوء على هذه الدراسة عبر حلقات متسلسلة. الحلقة 3
الحلقة الأولى: التشيع في سورية ظاهرة تتفشى بتشجيع من رأس النظام الحلقة الثانية: الكعكة السياسية تدفع الأسد لدعم شيعة لبنان