يواصل كتاب «الرحلة 163» الصادر عن دار مدارك للماتب منصور بن محمد العساف البحث في أسباب اشتعال طائرة الخطوط السعودية التي كانت قادمة من كراتشي في رحلتها رقم 163 عام 1980 وحطت ترانزيت في الرياض ثم واصلت إلى جدة، قبل أن تعود إلى المدرج حيث هبطت ثم احترقت بالكامل. الزموا مقاعدكم كان الوضع مربكا، وكانت رئيسة المضيفات توجه مضيفاتها أولا بأول، ويظهرها التسجيل وهي تنادي بأعلى صوتها مخاطبة الركاب «إلى جميع الركاب الزموا مقاعدكم، الرجاء الجلوس، ابتعدوا عن الطريق.. على الجميع الجلوس، ابتعدوا عن الممر، لا يوجد خطر على الطائرة».
المدرج والبرج يتضح من تسجيلات الصندوق الأسود أن قائد الطائرة طلب من برج المراقبة تكليف سيارة تستقبله على مدرج المطار، للتأكد من وجود دخان في مجموعة الذيل، وفعلا استقلّ أحمد المغربي «نائب مدير إدارة المراقبة الجوية» حينذاك سيارة ونزل لمدرج المطار بانتظار وصول الطائرة. لم يكن ببرج المراقبة سوى موظف شاب هو ولي قوته، الذي تلقى الإشارات الأولى من الخطّ الساخن، وأدرك أن العمل سيتضاعف عليه، لاسيما وأنه على علم مسبق بغياب زميله الذي بجانبه، والذي أبلغه بالأمس أنه سيسافر إلى المدينةالمنورة بصورة عاجلة. وبنزول المغربي إلى مدرج المطار، طلب مدير المراقبة الجوية موظفا آخر له خبرة أطول، وكان المراقب الجوي الشاب حمد العوفي هناك في إحدى الردهات مع بعض زملائه.
فزعة المراقب ما إن وصل خبر الطائرة المفجع إلى ردهة الموظفين إلا وأسرع العوفي لتسلم زمام الأمور مع زميله ولي قوته، وهناك قسّما العمل بينهما، قال حمد لزميله قوته: تسلم أنت موجه قائد الطائرة، وأنا أتسلم الموجه الأرضي، ومع اقتراب هبوط الطائرة ظلّت الطلبات المتلاحقة تتردد على مسامع المراقب الجوي ولي قوته، إذ إن هناك مجموعة من الطائرات ترغب في الهبوط، كما أن ثمة طائرات أخرى تنتظر الإذن بدخول المدرج والسماح لها بالإقلاع، بيد أن ولي قوته والعوفي أعطيا الأولوية للقائد محمد الخويطر للهبوط، ومع اقتراب الطائرة من المطار كانت هناك طائرة خاصة صغيرة الحجم من نوع «فالكون 50»، ألحّ قائدها على ضرورة منحه الإذن بالهبوط، بينما طلب منه ولي قوته البقاء قليلا في سماء الرياض، ثم أخبره بصعوبة منحه إذنا بالهبوط، كما أخبر غيره من طائرات الركاب الأخرى التي ظلّت ولفترة تجوب سماء العاصمة، إلى أن طلب منها البحث عن مطار بديل، وفعلا استجاب الجميع، إلا قائد طائرة ال«فالكون 50»، حيث أبلغ المراقب الجوي بضرورة الهبوط لانعدام الوقود الكافي في طائرته، وفعلا كانت هذه الطائرة أمام خطر محدق، إذ مع هبوط طائرة الرحلة (163) بذل ولي قوته والعوفي جهودا مضنية، للتأكد من خلوّ المدرج لهذه الطائرة التي هبطت -بعد طائرة الرحلة (163)- وسط الأجواء الصاخبة التي تشهدها أرض المطار. المحادثات الأرضية قيادة الطائرة: أرجو إعلام سيارات الإطفاء لتكون لدى مؤخرة الطائرة بعد الهبوط رجاء. البرج: حسنا، الحريق في مقصورة الطائرة. مشرف الإطفاء: لكن الطيار يريد منكم أن تكونوا خلف الطائرة من جهة ذيلها... حسنا. البرج: حسنا، بخصوص الهبوط، قائد طائرة الترايستار الآن يقول إنه لديه حريق في المقصورة ويريد من الشاحنات أن تتبعه من الخلف أيضا يريد أن تنتظره سيارات في الأمام. مشرف الإطفاء: الشاحنات متوقفة على المدخل (A4) حمد، على كل التقاطعات (....) كما تراني أرى على طول المدرج لا توجد طائرة، لا توجد شاحنات تمشي أمامه، كل الشاحنات ستمشي خلفه إلا إذا توقفت الطائرة. قيادة الطائرة: الرياض، نحن نرى المدرج هل يصرح لنا بالهبوط؟ الاقتراب الآلي: السعودية، أنت رقم واحد مسموح لك الاقتراب. قيادة الطائرة: الرياض، واحد ستة ثلاثة، عشرة أميال على النهاية، المدرج في مجال الرؤية هل مسموح لنا بالهبوط؟ - هنا انتهى الحديث مع برج المراقبة وانتهى دور الاقتراب الآلي. البرج: واحد ستة ثلاثة مسموح لك بالهبوط، الرياح ثلاثة اثنين صفر على خمسة. قيادة الطائرة: مسموح لنا بالهبوط، أكّد لي إذا كنت بلغت شاحنات الإطفاء. البرج: مؤكد، هم مستعدون. قيادة الطائرة: هل يوجد لدينا نيران في ذيل الطائرة؟ البرج: نعم، هم على المدرج الآن خلفك بالضبط خلفك. قيادة الطائرة: لكن هل لدينا بالفعل نار في الذيل؟ البرج: انتظر.... شباب، هل ترون نارا في الذيل؟ مشرف الإطفاء: لا، لا يوجد شيء. البرج: لا توجد نيران. قيادة الطائرة: حسنا، نحن نطفئ المحركات الآن ونخلي الطائرة. البرج: حسنا، هم أبلغوا أنه يوجد لديك نيران في ذيل الطائرة. قيادة الطائرة: علم، نحن نحاول الإخلاء الآن. البرج: حسنا. الرحلة 3117: آآآه برج المراقبة، يحتمل أن الجميع خارج قمرة القيادة الآن. المراقبة الجوية: نعم، أخبره أن يطفئ المحركات ويبدأ بالإخلاء، يوجد دخان في الطائرة. البرج: السعودية واحد ستة ثلاثة إذا كنت تسمع أطفئ المحركات. هنا انتهى كل شيء فقد أصبح قائد الطائرة ومساعده والمهندس الجوي في عداد الموتى، ويعتقد أنهم كانوا آخر ركاب الطائرة وفاة، لقد توفي الجميع في مقاعدهم وجهاز الاتصال ما يزال في يد قائد الطائرة.
أرض المدرج يرى البعض أنه لم يكن ثمة سبب يمنع القائد الخويطر من الوقوف في المدرج الرئيس، فالتسجيلات الأرضية توضح خلوّ المدرج من عوائق الهبوط السليم، كما توضح بقاء جميع الطائرات التي كانت على وشك الإقلاع في أماكنها، وتثبت التسجيلات أن الأولوية أعطيت للخويطر، وأن البرج لم يطلب منه إخلاء المدرج، وكل هذا في حال إثباته يوضح أن قائد الطائرة توفي وهو يحمل معه أسرار الدقائق الأخيرة للرحلة. ولنتخيل المشهد كما هو، إذ ربما كان من الممكن إنقاذ جميع الركاب أو على الأقل بعضهم في حال توقفت الطائرة في المدرج الرئيس، ويقول نائب مدير الرقابة الجوية أحمد مغربي، الذي كان أول مَن استقبل الطائرة وهو من شاهد وعايش تفاصيل ما حدث للطائرة أولا بأول، بل إن صوته في التسجيلات الأرضية كان مدويا وكان الرجل مفجوعا ومتحمسا كغيره لإنقاذ جميع الركاب، وبسؤال المغربي عن السبب وراء عدم توقف القائد في المدرج الرئيس قال: ربما لم يتسنَّ له ذلك، لأن المكابح قد تضررت جراء الحريق، وهو الأمر الذي لم يكن ظاهرا، وربما ذلك دفعه ذلك مجبرا للوصول إلى آخر المدرج. وسيثبت التقرير النهائي للحادثة صحة ما ذهب إليه مغربي، حيث يُظهر التقرير علاقة مباشرة بين كوابح عجلات الطائرة والمحرك رقم (2) وهو المحرك «العالق»، مع عدم إغفال السرعة العالية للطائرة حين هبوطها، كما أن طائرات الترايستار تحتاج مسافة طويلة أكثر من غيرها لتتوقف، وربما كان بالإمكان التفافها مع الممر الفرعي الثاني، وبهذا اختصار لنصف المسافة أو أكثر، كما أن المدرج سيظل خاليا لأي طائرة ترغب في الإقلاع أو الهبوط، أقول ربما لأن الطائرة واجهت ثلاثة مداخل فرعية كان من الصعوبة بمكان الالتفاف من خلال الممر الأول لسرعة الطائرة وحمولتها الكبيرة، لاسيما وأن الركاب كلهم الآن كانوا في المقدمة، أما الممر الفرعي الثاني فربما كان بالإمكان الالتفاف معه، ولو أن الخويطر كان موعزا بإخلاء المدرج لكان بإمكانه الالتفاف مع الممر لكنه لم يفعل، أما الثالث وهو الأخير فهو الذي التفّت منه الطائرة وتوقفت ولم تواصل سيرها، وتثبت تسجيلات الصندوق الأسود أن قائد الطائرة قبل الهبوط كان في أعلى سرعة، وبلا شكّ فإن هبوطه كان سريعا وربما عنيفا، لاسيما إذا علمنا أن الركاب جميعا كانوا في مقدمة الطائرة، على أن طائرة الترايستار اعتادت أن تنزل على المدرج وتسير إلى نهايته، لتلتفّ من خلال آخر مخرجٍ متجهة نحو موقعها المعتاد.
فقدان الوعي هنا نقف أمام فرضية أخرى لا يجب إغفالها، وقد ألمح إليها الشاب المهندس أحمد الرويلي في تحليله لما حدث لقائد الطائرة ومساعده والمهندس الجوي وربما جميع الركاب، حيث رجّح أن السبب في تأخّر استجابة القائد لإنذارات برج المراقبة هو أنه كان يفقد الوعي تارة ثم يعود، وهو ما يتحدث عنه أطباء الطوارئ أنه في حالات الوفاة بالغازات السامة يحدث بطء في الحركة والاستجابة وفقدان الوعي على مراحل، يتطور ذلك مع ازدياد نسبة الغازات السامة داخل الجسم، وهذا أمر لا يجب إغفاله، لاسيما وأن المحادثات مع قائد الطائرة ومساعده ترجّح مثل هذا الأمر، ولا أدلّ على ذلك إلا النسبة العالية من الغازات السامة التي وُجِدت في جثة المهندس الجوي الذي كان بجوار القائد ومساعده، على أن قيادة الطائرة لم تتأخر في الإجابة على موظف البرج، بل إن البرج تأخر قليلا في إجابته على تساؤل قيادة الطائرة عن وجود نار من عدمه في ذيل الطائرة.
خطأ فادح إن قراءة تداعيات الحدث بتمعن يلقي الضوء على أخطاء فادحة في العملية الاتصالية، حيث كان أحمد المغربي الذي نزل من برج المراقبة الجوية، ليستقبل الطائرة ويطالب ولعدة مرات بأن يتمّ ربطه ورجال الإنقاذ والإطفاء مع الموجه التي كان عليها قائد الطائرة، وكان المراقب الجوي يتلقى تساؤلات المنقذين في الميدان ويحيلها لقائد الطائرة والعكس كذلك، كانت عملية بطيئة. كل هذه الأخطاء لا تلقي بالمسؤولية الكاملة على هؤلاء الأفراد، فالركاب -للأمانة- كانوا في صراع مع اللحظات الأخيرة من حياتهم، حين كانت الطائرة تسير على المدرج وأثناء توقفها، ولذا فقد كان عامل الوقت مهما في محاولة تدارك ما يمكن تداركه، لكن الأمر أيا كان دلل بما لا يدع مجالا للشكّ على قصور واضح في التعامل مع الحدث، لكن بقراءة الأحداث لم تكن هذه الأخطاء هي السبب الرئيس في النهاية المأساوية، بقدر ما كانت عليه الأخطاء المصنعية لطائرة الترايستار التي سترد تفاصيلها لاحقا، بإذن الله.
سقف الطائرة من يشاهد صورة الطائرة بعد الحادثة يدرك جيدا حجم الدمار الذي لحق بسقفها العلوي، فقد انصهر الجزء الأعلى من هيكلها ليسقط بكامله على الركاب الذين كانوا حينها -وفق معظم التقديرات- في عداد المتوفين، كما سقط المحرك رقم (2) الموجود أعلى مجموعة الذيل على سطح مقصورة الركاب 33 في المقاعد الخلفية، حيث لا وجود لأحد من الركاب هناك. ويكاد يجمع المحللون من ذوي الاختصاص أن السبب في انتشار ألسنة النار في سقف الطائرة عائد إلى تواجد أنابيب أو عبوات الأكسجين فوق مقاعد الركاب، ولا شكّ لديهم أن أنابيب الأكسجين زادت من حجم الانفجارات المتتالية في سقف مقصورة الركاب. كان الجميع في الميدان ينتظرون إغلاق إيقاف المحركات، وبإغلاقها وبإيقافها هجمت فرق الإنقاذ على الطائرة، إلا أن ألسنة اللهب انتشرت بسرعة مهولة داخل مقصورة الركاب -كان المشهد مرعبا-، حتى أن الزجاج في مقدمة الطائرة انصهر وتعلّق أعلى مقدمة قمرة القيادة كالعمود المائل، كل ذلك سرّع بشكل مهول ومروع من انتشار النار ووصولها إلى مقدمة الطائرة، حيث تجمع الركاب الذين أغلق أحدهم على نفسه دورة المياه، ربما في محاولة منه الهروب من الغازات السامة التي أطبقت على الأجواء داخل مقصورة الركاب، ولا شكّ حينها أن الغازات السامة كانت تملأ مقصورة الركاب، وربما لم تصل إلى قمرة القيادة إلا في الدقائق الأخيرة، حيث دخل 11 راكبا على القائد ومساعده والمهندس الجوي في آخر اللحظات، قبل وصول الغازات السامة إلى هناك بشكل مميت، حيث وجدت ما يقارب من 14 جثة داخل قمرة القيادة. وتقف التحليلات حائرة بين مَن يرى أن وفاة الجميع كانت بسبب انتشار الغازات السامة، فيما يرى آخرون أن ذلك كان بسبب انفجار مهول داخل المقصورة تزامنا مع توقف الطائرة خارج المدرج، ما أحدث كرة من اللهب أحرقت الجميع، عزاها البعض إلى انفجار أنابيب الأكسجين التي تعلو مقاعد الركاب.
خطأ مصنعي يرى المهندس أحمد الرويلي أن اشتعال الحريق ربما يعود إلى خطأ مصنعي، ويؤكد الدفاع المدني أنه تمّت السيطرة على الحريق بحصره في منطقة السقف التي كانت ألسنة اللهب قد وصلته مع قدوم رجال الدفاع المدني، وهذه السيطرة حالت بين النار والوصول إلى أجنحة الطائرة، حيث مخازن الوقود، واستطاع رجال الدفاع المدني اقتحام الطائرة، لكن للأسف كان ذلك بعد وفاة جميع الركاب، والحقيقة أن وصولهم أصلا إنما جاء بعد وفاة الركاب بقرابة 20 دقيقة، وكانت الحرارة داخل جسم الطائرة تفوق المئة درجة بكثير. كان أول اقتحام للطائرة تم عن طريق ناصر المنصور مدير الصيانة بمنطقة الرياض حينذاك، وهو يقول «ما إن فتحت الباب إلا وتفاجئني غيمة بيضاء من الأدخنة، لم أعد أرى شيئا بعدها، وتراجعت قليلا فإذا بكتلة رهيبة من ألسنة اللهب تندفع خارج باب الطائرة، ومع حلول ال10:08، أي قبل وصول وحدات الدفاع المدني بدقيقتين كانت النيران قد اجتاحت جسم الطائرة الداخلي»، ويضيف «بعد فتحي الباب شعرت حينها بتأنيب الضمير، ليس لأنني واجهت الأدخنة والغازات السامة، بل لأن فتح الباب أسهم في إضرام النار أكثر، مع يقيني أن الركاب كانوا حينها وقبلها في عداد المتوفين».