"نحن لا نعود إلى الماضي لجماله.. بل لبشاعة الحاضر!" الدكتور علي الوردي. قبل غزو العراق 2003 صبر الناس لعقود طويلة على العزلة والتعتيم وعاشوا طويلا خارج حدود الزمن لا يعلمون شيئا عن التطور والتقدم الذي أصبح عليه العالم في كافة الميادين، إلا من خلال قناتين رسميتين يتيمتين تقدمان لهم ما تريدان وتسمحان لهم بمعرفته وتوجههم من خلالهما.. فلم تكن هناك فضائيات ولا قنوات ولا فضاء مفتوح ولا وسائل تواصل ولم يكن مسموحا حتى باستعمال الفاكس. كانت "ملاعيب" العصر الحديث كالرسيفر والدش والهاتف النقال، والأخوان ياهو وهوتميل ومسنجر وابن عمهم السكايب وجوجل والإنترنت محرمة، ككائنات فضائية غريبة علينا نسمع عنها الأعاجيب وكان محظورا تداولها وكأنها رجس من عمل الشيطان لابد من اجتنابه، وفوق كل هذا حصار كوني دام أكثر من عشر سنوات زاد من معاناة الناس. وجاء الغزاة الأميركيون وفرح البعض واستبشروا وخرجوا للشوارع بمظاهرات، وعمت الفوضى ونهبت القصور والبنوك وكل المؤسسات وحرقت كل الوزارات، ودمرت الجسور والمباني وكل محطات الماء والكهرباء، نتيجة القصف الجوي والقنابل والصواريخ الموجهة من غير دقة وبحقد مقصود والتي راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء. ودخلت إلينا مع دخول الأميركيين "ملاعيب" العيد والتي كانت محرمة وانتشرت الفضائيات والمحطات وبالمئات وتعرف الناس على الهاتف الجوال والإنترنت وكل ما يتبعها من الملحقات والناس فرحين بها بعد طول حرمان.. لم يدم الحال طويلا حتى اكتشف الناس في العراق بمن فيهم الحالمون والمتفائلون من الشرفاء والبسطاء الوطنيون، ومنهم كتاب ومثقفون ورجال دين سنة وشيعة ومسيحيون، والذين كانوا مستبشرين، صبروا على الضيم كثيرا حتى تيقنوا وبعد فوات الأوان، أنهم في الوهم كانوا غارقين، وأنهم والملايين من الناس وبلا استثناء باتوا مهمشين، وأن الأمر استتب لصالح إيران وضاع الأمان. وحينها بدأ البعض منهم يترحم على الأمان الذي فقدوه زمانا.. هو ليس حبا ولكنهم أصبحوا مقهورين وتناسوا مرغمين ما جرى منه وما كان، فالظلم لا يتجزأ ولكنه قطعا مثل كل الأشياء على درجات.. واليوم أصبحوا في أعلى المراتب منه والمستويات.. بالتحديد منذ أكثر من عشر سنوات، وقبل ظهور داعش على المشهد بكثير، حين أصبح القتل في العراق يتم على الهوية والاسم، والذي راح ضحيته مئات الآلاف من الشباب لأسباب مذهبية، حينما جاء الفرمان من إيران وكان الجواب "علم وينفذ". هو ليس ترحما على ذاك النظام، ولكنه في الحقيقة ترحم على وطن أصبح في خبر كان، بعد أن فقد الناس فيه كل شيء فلا أمن ولا أمان.. ولأن العراق أصبح مثلا للفساد تضرب به الأمثال وعليه باتت تقاس. وبات الناس بين مشرد أو مهجر أو سجين ومعتقل من غير جريرة ارتكبها أو ذنب فعل.. أو أصبح من سكان القبور أو طعاما للأسماك في بطن البحور. علم الشعب العراقي من شماله وحتى جنوبه وبكل طوائفه وبلا استثناء أن المشروع الإيراني يقوم على الحقد والمقت والكراهية للعرب وقوميتهم ولغتهم وبكل طوائفهم بلا استثناء.. فاستعان بكل خائن عتل وطماع.. ولبني جلدته عدو وبياع.. وللفرقة والفتنة خادم ذليل وتباع.. آكل لأموال السحت ناهب لقوت الشعب.. كل شيء عندهم مستباح.. موسومون بعارهم ولكنهم وبكل تأكيد بلا حياء. لا صحة ولا مستشفيات، لا تعليم ولا قضاء، لا كهرباء ولا ماء ولا خدمات "ولا.. ولا.. ولا" ولك أن تعدد من مظاهر التخلف والقهر ما تشاء. ولأن كل المسؤولين وبلا استثناء تعطلت بوصلتهم وباتجاه واحد نحو إيران.. وصار همهم السعي إلى قم وطهران.. للحصول على البركة والقبول وكسب الرضا وتقديم فروض الطاعة والولاء.. ويا للعار.. كلهم ومن غير استثناء!.. لم يعد هناك استثناء.. فقد انكشف المستور، فالرقص صار على المكشوف. لم يعد هناك دولة ولا نظام، وأصبح الشعب كله هو "العدو والمجرم والمطارد" وبكل أطيافه ومذاهبه، بات هدفا لإيران. ولأن التافهين والمغيبين عن الواقع أصبحوا رغما عن أنوفنا هم النخبة و"التكنوقراط"، وطارت "أحلامنا ومعها طار الأمان" بعيدا وسافرت عبر الزمن بمركبة الخطوط "الكونفوشيوسية" الفضائية، نحو الزمن الغابر بعيدا وبسرعة ملايين السنين الضوئية إلى الوراء.. وحطت في مطار السومرية بمدينة الناصرية، والذي شيد منذ خمسة آلاف عام قبل الميلاد! والذي اكتشفه مؤخرا عبقري من بين أولئك التكنوقراط.