الحكم على أي مسار سياسي رهن بالنتائج التي يخلص إليها، وعلى اعتبار أن النتائج جاءت مغايرة لما كان ينشده الحراك في الحالة السورية، فهذا يعني بالضرورة وجود أخطاء بنيوية لم يتم التوقف عندها ملياً، لتصحيح النهج الذي تبناه الحراك وتقويمه. وهنا نود الإشارة إلى أهم الأخطاء التي ارتكبتها معظم قوى المعارضة. أولاً: محاولة العديد من التيارات السياسية الاستئثار بحصر شرعية التمثيل، على خلفية إيديولوجية وحزبية جاءت سابقة على الهم الوطني الجامع، ما حال دون إيجاد جبهة موحدة تكون نداً وبديلاً يرضى عنه معظم السوريين، فكان الضرب بالأيدي والتخوين وكَيْل الشتائم في ما بينها سمةَ المشهد. وبدل الدفع باتجاه التوحد على المشترك وتنحية الخلافات إلى حين تحقيق المبتغى، ظهرت أصوات تبرر ما حدث، ملقيةً باللوم على النظام، وفي الوقت ذاته اعتبرته حالة صحية وديموقراطية! ثانياً: مراهنة المجلس الوطني المعارض، ومعه الائتلاف المُشّكل مؤخراً، على التدخل العسكري على الطريقة الليبية، وهو رهان بدت ملامح فشله مع أول فيتو، وبدل البحث عن خيارات أخرى، ظل الرهان قائماً على إمكانية أن تغيّر روسيا موقفها. وهنا يحضرني مقال لميشيل كيلو في «السفير» اعتبر فيه بأن روسيا ستحسم أمرها في نهاية المطاف، لأنها ستدرك بأن مصالحها ستكون مع الشعب وليس مع نظام استعدى شعبه عليه. وعشية الفيتو الثاني، أطل على شاشة «الجديد» ليقول: على المعارضة أن تتفاوض مع الروس ويعطوهم كل شيء، ليستدرك قائلاً: إلا السيادة طبعاً! مع أننا منذ بداية الأزمة تحدثنا من على هذا المنبر، عن صلابة الموقف الروسي، لأسباب بات الكل يُدركها. ثالثاً: الإفراط في التفاؤل بأن أيام الأسد باتت معدودة منذ الأشهر الأولى، على خلفية محاكاتهم لما جرى في «دول الربيع»، حيث بدأت المعارضة بالحديث عن مرحلة ما بعد الأسد، لاسيما مع إنشاء المجلس الوطني في اسطنبول، وتُرجم هذا التوجه مع أول حكومة ظل، لم يكتب لها النجاح، بسبب اختلاف المعارضين على الكراسي، وفق تعبير هيثم المالح، ثم تبعتها حكومة ثانية وثالثة، إلى أن وصلنا لمبادرة سيف-فورد، التي مهدت لإنشاء الائتلاف المعارض برئاسة الخطيب إمام الجامع الأموي! على أمل تشكيل حكومة تكنوقراط تقود المرحلة الانتقالية. رابعاً: الاستخفاف بقوة نظام الأسد وبالمؤسسة العسكرية الداعمة له، حيث يرددون في كل مناسبة بأن الأسد مختبئ ويهم بالهرب، وخطابه الأخير كان مسجلاً! منكرين عليه شعبيته، وواصفين من يقف معه بحفنة من الشبيحة، وبأن نظامه متآكل من الداخل وآيل للسقوط. أما بالنسبة للجيش النظامي فكان توصيفهم له خطأً أخلاقياً، حين اعتبروه جيش الأسد، كونه يضم مكونات المجتمع السوري كافة. وكانت هذه إحدى نقاط الخلاف بين هيئة التنسيق والمجلس الوطني، إذ توهم الأخير أن الجيش سينقسم ويتفكك بفعل الانشقاقات الفردية، وهذا ما لم يحدث. خامساً: السكوت عن الخطاب والسلوك الطائفي، رغم تحذيرنا من على هذا المنبر قبل أن تبادر هيئة التنسيق وترفع لاءاتها الثلاث، وهو ما عزز تخوف الأقليات والمعتدلين من الطائفة السنية، إضافة لغض الطرف عن التسلل الكبير للجهاديين، واعتبارهم ظاهرة هامشية في الثورة. أما الخطأ الاستراتيجي، فيتمثل في دفاعهم عن «جبهة النصرة»، بعدما كانوا يعتبرونها صنيعة الأجهزة الأمنية، وهذا ما صب في صالح النظام، فعرف الأسد كيف يستثمره في خطابه بدار الأوبرا، إذ شكل دفاع المعارضة عن القوى المتطرفة لاحقاً معظمَ أعمدة هذا الخطاب، وكانت هذه هدية مجانية قدمتها عن غير قصد، وأظهرت معها الأسد أكثر ارتياحاً وثقة، ليقول على الملأ إنه مع مبادرة جنيف ولكن بشروطه! في هذا السياق يمكن تفهم رفض المعارضة مبادرة الأسد، لكن استمرارها على النهج ذاته من دون إعادة تقييم لمسار تجربتها كله، هو المأساة بعينها، حيث اعتبر الائتلاف المعارض أن خطاب الأسد يهدف إلى إحباط الحل الديبلوماسي للصراع! وهو موقف غريب ومتناقض، كون الائتلاف اشترط رحيل الأسد قبل الدخول في أي تفاوض مع نظامه، فلماذا إذاً يُحرِّم ما حلله لنفسه؟ واستمراراً في المأساة والغرابة، وصف أحمد رمضان عضو المجلس الوطني، الخطاب على «سكاي نيوز»، بأنه خطاب الوداع! وأن روسيا وإيران تخدعان الأسد وتضللانه! بينما رأى وليد البني على شاشة «بي بي سي» أن الشعب الذي ثار بكل أطيافه سوف يزيله هو وعائلته من الحكم!... مرة أخرى تؤكد المعارضة على الثورة والتحدث باسم الشعب! سادساً: عدم رؤيتها التحولَ الذي طرأ على المزاج الشعبي، بعيداً عمن والى أو عارض، فالواقفون في الوسط بدأوا يفقدون صبرهم جراء طول الأزمة واستعصاء الحل السياسي، فغياب الأمان مع انكفاء الدولة، وانتشار فوضى السلاح، وما نتج عنه من أعمال سلب ونهب وخطف طاولت حتى النساء والأطفال في كل المناطق، إضافة لضرب البنى التحتية، كل ذلك أدى لانحطاط الواقع المعيشي والقيمي، حتى بات معظم الناس يترحمون على ما مضى وانقضى. وهنا لا يعود مجدياً تحميل النظام وحده مسؤولية ما يجري، ولنا أن نتذكر كيف رفعت المعارضة شعار «لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس»! وما تبعه من تخريب للمدارس وتهديد للمدرسين والطلاب. في هذا السياق يمكن النظر لعملية استهداف جامعة حلب، والتي ذهب ضحيتها العشرات، من زاوية أنها تصب في صالح النظام، رغم اتهام واشنطن له، والذي جاء معيباً برأي لافروف. الأمر عينه يحدث مع حالة التجويع، التي يمر بها الشعب ويستثمرها النظام، فالعقوبات الدولية التي فُرضت على سورية رأى فيها بعض المعارضين حافزاً ليثور من لم يثر من الشعب ويُسقط النظام! بهذا الغيض نسألهم: في حال لم يسقط الأسد، هل ستعترف المعارضة بأخطائها وتعتذر لمن سيبقى من الشعب؟ * كاتب سوري