بعد أن انحرفت الجماعات المتطرفة والإرهابية متمسكة بمفاهيم جهادية خاطئة وفق منهجها المتزمت من خلال فهم خاطئ للأحاديث وآيات كتاب الله، نكشف في الجزء الثالث والأخير من بحث: "أسباب الانحراف في مفهوم الجهاد ووسائل علاجه" للشيخ الدكتور سليمان الغصن، والذي حصلت عليه "الوطن" من مركز التميز البحثي في فقه القضايا المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، أسباب غلو المنحرفين في اعتقاداتهم التي بسببها شهدت البلاد الإسلامية أعمالا قتالية مع الرد عليهم. بداية نذكر أن أولئك المنحرفين يرون الجهاد فرض عين مطلقا على كل مسلم قادر، وأنهم يرون قتال القريب أولى من قتال البعيد، ويكفرون الحكام ويرونهم مرتدين، ولا يقيمون أي وزن لأوامرهم ومعاهداتهم، ولا يرون أن عليهم لهؤلاء الحكم حق الطاعة، فضلا عن الاستئذان في الجهاد. قتال القريب أولى من البعيد يرى المتطرفون المنحرفون أن مقاتلة العدو القريب أولى من البعيد، وهو ما أكده مراقبون بعد أن أفتى أحد أتباع داعش في مقطع فيديو شهير بأن "قتل الأقارب مهما كان ترتيبهم مقدم على النفير"، فبعد هذه الفتوى استمرت عمليات قتل ذلك التنظيم للأقارب لتؤكد على وحشية هذا الفكر، كيف لا وقد وجه أن "لا رحمة ولا هوادة ولا تراجع عن قتل المشركين، وعلى رأسهم أقرب الأقارب، حتى وإن كانا الأبوين". مقاتلة المرتد أولى من الكافر الأصلي يرى الباحث الغصن أن من أسباب انحراف المتطرفين اعتقادهم أن مقاتلة المرتد أولى من الكافر الأصلي، وأن البلاد الإسلامية بهذا تكون محتلة من قبل الأعداء، وأن مقاتلتهم من باب جهاد الدفع الواجب الذي يتعين على كل أحد بحسبه، كما يرون أن جهاد الدفع لا يشترط فيه ما يشترط في جهاد الطلب. وبين الباحث أنه على فرض احتمال التكفير فإن القول بوجوب الخروج على الحكام ومنابذتهم على جميع المسلمين مخالف لما عرف من قواعد الشريعة في هذا الباب، من تعليق تلك المسائل الكبرى بأهل الحل والعقد، ورعاية المصالح ودرء المفاسد، ووجود القدرة. الإخلال بشرط إذن ولي الأمر يؤكد الباحث أن اعتقاد أولئك المنحرفين أن ما يقومون به من أعمال قتالية داخل في جهاد الدفاع الذي لا يجب فيه استئذان ولي الأمر، وأيضا اعتقادهم بأن النصوص المتعلقة بولي الأمر إنما يقصد بها الإمام الأعظم الذي يبايعه جميع المسلمين، وأما الحكام على جزء من أراضي المسلمين فلا تشملهم أحكام ولي الأمر. أبوجندل واعتراض عير قريش يشرح الباحث أسباب الاعتقاد في عدم وجوب استئذان ولي الأمر في الجهاد، وذلك استنادا إلى قصة أبي جندل وأبي بصير اللذين ردهما النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى قريش بعد صلح الحديبية، فاجتمع معهما نفر من المسلمين وصاروا يعترضون عير قريش ويقتلون أصحابها.. إلى آخر القصة، قالوا فهذا أبوبصير ومن معه اعترضوا عير قريش وقتلوا أصحابها دون إذن من النبي الذي هو ولي أمر المسلمين. والحق أن أمر الجهاد منوط بولي الأمر وليس لأحد من الرعية إعلان ذلك دون إذنه لما يسببه من الفوضى والإفتيات على مقام الولاية وطمع الأعداء. وقد سبق في الحديث: "إنما الإمام جُنة يقاتل من ورائه". وقال ابن قدامه، رحمه الله: "وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك". لا يجوز غزو الجيش إلا بإذن الإمام قال الشيخ محمد بن عثيمين، رحمه الله: "لا يجوز غزو الجيش إلا بإذن الإمام مهما كان الأمر، لأن المخاطب بالغزو والجهاد هم ولاة الأمر وليس أفراد الناس، فأفراد الناس تبع لأهل الحل والعقد.. ولأنه لو مكن الناس من ذلك لحصلت مفاسد عظيمة، فقد تتجهز طائفة من الناس على أنهم يريدون العدو وهم يريدون الخروج على الإمام، كما قال تعالى: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما". حق الطاعة للحكام المسلمين والمتغلبين حصر حقوق ولي الأمر في الإمام الأعظم الذي تدين له كل الأمة بالطاعة، والزعم بأن حكام المسلمين ليس لهم حق الطاعة أو الاستئذان في الجهاد، لأن ولايتهم ليست شاملة، باطل، لأن انعدام ولي الأمر الذي تدين له كل الأمة في جميع بلدان المسلمين بالطاعة لا يلغي حق الطاعة للحكام والولاة المسلمين والمتغلبين على بعض ديار الإسلام، كما واقع المسلمين منذ أواخر زمن الصحابة. ابن عثيمين أوضح أيضا في مفهوم ولي الأمر، فقال: "هو ولي الأمر الأعلى في الدولة، ولا يشترط أن يكون إماما عاما للمسلمين، لأن الإمامة العامة انقرضت، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اسمعوا وأطيعوا ولو تأمر عليكم عبد حبشي". قادة المجاهدين يحلون محل ولي الأمر مما يطرحه المنحرفون في هذا الجانب زعمهم أن قادة المجاهدين يحلون محل ولي الأمر في مسائل الجهاد وأحكامه، كمسألة الاستئذان والاستنفار وغيرها. ليؤكد الباحث في هذا الكتاب أن هذا الكلام النظري لا يصح شرعا ولا يمكن تطبيقه واقعا، قائلا: "أي قادة يعنون؟ هل هم قادة الجهاد في أفغانستان؟ أم الصومال؟ أم سورية؟ وهل يصح التفريق بينهم؟ ولو أردنا تحديد بلد بعينه كسورية مثلا، فقادة مَن مِن الكتائب الجهادية هناك التي تحل محل الإمام؟ وهل يلزم إجماعهم، أم يكفي قول بعضهم؟ ومن قال ذلك من العلماء؟ مؤكدا أن كل هذه الأسئلة لن تجد لها جوابا عندهم. الرد على الاستدلال بواقعة أبي بصير الباحث بين أن الاستدلال بقصة أبي بصير على عدم لزوم استئذان ولي الأمر غير صحيح، لأن أبا بصير ومن معه لم يكونوا داخلين في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الوقت، فلا يعد ما قاموا به إفتياتاً عليه. الخلل في فقه الواقع ومن أعظم أسباب الانحراف في مفهوم الجهاد وتطبيقه في العصر الحاضر الخطأ في قراءة الواقع وتقدير الظروف، والموازنة بين المصالح والمفاسد، حيث استمر عامة المنحرفين بالاستهانة بقوة العدو والاستخفاف بالقوى العالمية وتحالفاتها. يقول الدكتور ناجح إبراهيم: "من أهم الأخطاء الإستراتيجية للقاعدة تبنيها نظرية الهدف المستحيل، فهي تضع لنفسها أهدافا شبه مستحيلة وأكبر بكثير من قدراتها وطاقاتها، دون أن تكون لديها أية أدوات لتحقيق هذه الأهداف، ولذلك لم تحقق أي هدف لديها، بل إن كل ما قصدته من أهداف حدث في الواقع عكسه، فقد كانت تهدف وراء أحداث 11 سبتمبر إلى تركيع أميركا وضبط سياستها في الشرق الأوسط، فلم يحدث منها إلا العكس، إذ دخلت أميركا بجيوشها المنطقة واحتلت أفغانستان والعراق. عدم اعتبار المواثيق وعهود الأمان في هذه المسألة يوضح الباحث أن المنحرفين لا يتورعون في مفهومهم للجهاد عن قتل الكفار، سواء داخل بلاد المسلمين أو خارجها، لا سيما من جنسيات بعض الدول التي اعتدت على بعض بلاد المسلمين كالأميركيين، غير آبهين بما تم إعطاؤه لهم من الأمان، وما تم إبرامه من العهود والمواثيق، سواء بين دولهم وتلك الدول الكافرة، والسبب في ذلك يرجع إلى أنهم يعدون حكومات تلك الدول حكومات محاربة، وأن رعاياهم تأخذ حكمهم لكونهم انتخبوا حكوماتهم ورضوا عن أفعالهم، فصار هؤلاء الرعايا هدفا لأولئك المنحرفين. كما أنهم يجعلون كل كافر في هذا الوقت محاربا للمسلمين، وأنهم لما أصّلوا كفر الحاكم وردته أبطلوا كل ما يصدر عنه من عهود ومواثيق، فلا اعتبار عندهم لأمان منحه الحاكم لكافر في بلاد المسلمين من شروط مقابل منحهم الإذن بالزيارة أو الإقامة بها. ولا شك في فساد هذه النظرة وخطورتها، حيث إن الأمان للكافر تجب رعايته والوفاء به، سواء صدر من الحاكم أو غيره من المسلمين، فقد قال تعالى: "وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً" وقال: "وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم". القياس الفاسد من أسباب الانحراف في مفهوم الجهاد وتطبيقاته القياس الفاسد، حيث يعمد هؤلاء المنحرفون إلى أحكام شرعية وينزلونها على واقع مختلف، فيقيسون الواقعة على ما جاء في النصوص الشرعية وما نص عليه العلماء مع عدم تطابق العلة وعدم توافر الشروط. ومن ذلك استباحتهم دماء بعض المسلمين الذين يعملون في مجال الشرطة والجيش ونحو ذلك من أجهزة الدولة، قياسا على مسألة الطائفة الممتنعة التي نص عليها العلماء على أحكامها. يقول أبومحمد المقدسي، وهو أحد أعلام هؤلاء المنحرفين: "الممتنع عن شرائع الإسلام والممتنع عن النزول على حكم الله، والمحارب للمسلمين الخارج عن قدرتهم وحكمهم، سواء امتنع بدولة الكفر أو بقوانينها أو بجيوشها ومحاكمها، هذا قد جمع بين نوعي الامتناع، فلا يقال في حق من كانوا كذلك أنهم لم تقم عليهم الحجة، كما يهذر به بعض من يهرف بما لا يعرف، خصوصا إذا كانوا محاربين مقاتلين لنا في الدين، وقد تسلطوا على ديار الإسلام وامتنعوا بشوكتهم عن شرائعه، وأقاموا وفرضوا شرائع الكفر والطاغوت". من هي الطائفة الممتنعة؟ يشير الكاتب إلى أن الطائفة الممتنعة هي الطائفة التي يكون لها شوكة وتمتنع عن بعض أحكام الإسلام وشعائره وتقاتل على ذلك كما حصل في خلافة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- لما قاتل الممتنعين عن أداء الزكاة. فلا يصح قياس استهداف الجنود المسلمين على الطائفة الممتنعة، لأن الجنود لم يمنعوا حقا أو لم يمتنعوا عن أداء فريضة ويقاتلوا على تركها، ولم تؤسس أعمالهم لحرب الإسلام وأهله، بل إنهم يقومون بأعمال يحتاجها المسلمون كحماية البلاد من المعتدين، وحفظ الأمن الداخلي من السراق والمجرمين، إلى مختلف أعمالهم الأخرى والمعروفة، فكيف يصح قياس حال أولئك الجنود على الطائفة التي تمتنع عن بعض أحكام الإسلام وتقاتل دون امتناعها؟!. ثم إن الذي يقاتل الطائفة الممتنعة هو ولي الأمر، وليس آحاد الناس وأفرادهم. الخطأ في فهم مسألة التترس يقوم المنحرفون في مفهوم الجهاد وممارسته بأعمال قتالية وتفجيرات ضد أعدائهم يذهب ضحيتها أبرياء من المسلمين وغيرهم، وربما كان من بينهم نساء وأطفال ونحوهم ممن جاءت النصوص الشرعية بتحريم قتلهم، ولا يجد هؤلاء المنحرفون في صدورهم حرجاً من تلك الانتهاكات وإسالة تلك الدماء، والسبب راجع لفهمهم الخاطئ لمسألة التترس التي ذكرها العلماء وملخصها: أن الكفار إذا تترسوا ببعض أسارى المسلمين أثناء المعركة وخاف المسلمون على جيشهم وديارهم إذا لم يقاتلوا الكفار، جاز رمي الكفار ومقاتلتهم ولو أصيب وقتل من تترسوا به من المسلمين تغليبا للمصلحة العظمى. ويحتج هؤلاء المنحرفون في قتل الأبرياء بقوله تعالى: "والفتنة أشد من القتل"، ويحكم العلماء بأن هؤلاء لهم أجر الشهداء إن كانوا مسلمين، وأما إن كانوا كفارا فشر قد كفيتموه.. وفي هذا التعليل إشارة إلى حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال يا رسول "يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم"، قالت: قلت يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: "يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم". شروط وضوابط التترس التترس له ضوابط وشروط دقيقة، فقال شيخ الإسلام "فإن الأئمة متفقون على أن الكفار لو تترسوا بالمسلمين، وخيف على المسلمين إذا لم يقاتلوا، فإنه يجوز أن نرميهم ونقصد الكفار، ولو لم نخف على المسلمين جاز رمي أولئك المسلمين أيضا في أحد قولي العلماء، ومن قتل لأجل الجهاد فهو شهيد وبعث على نيته، ولم يكن قتله أعظم فسادا ممن يقتل من المؤمنين المجاهدين إذا كان الجهاد واجباً. وقال ابن القيم: "وأما إذا تترس الكفار بأسرى من المسلمين بعدد المقاتلة، فإنه لا يجوز رميهم، إلا أن يخشى على جيش المسلمين وتكون مصلحة حفظ الجيش أعظم من حفظ الأسارى، فحينئذ يجوز رمي الأسارى، ويكون من باب دفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، فلو انعكس الأمر وكانت مصلحة بقاء الأسرى أعظم من رميهم لم يجز رميهم. ويلخص من كلام العلماء أنه يحرم قتل المسلم الذي تترس به الأعداء ولا يرخص إلا بشروط، منها أن تكون هناك ضرورة تضطر المسلمين إلى قتلهم، بحيث لا يمكن الوصول إلى الكفار ودرء شرهم المترقب، وأن تكون المصلحة من قتلهم قطعية وليست ظنية، وأن تكون المصلحة عامة كلية لجميع المسلمين وليس لفئة قليلة، وأن يكون التترس حال مواجهة الكفار في المعركة.