بلقيس محمد كم أرغب حقا في الرحيل عن هذا العالم الواسع الذي يخنقني كلما اقتربت من نهاية عمري. فعلى الرغم من وسع هذا العالم، إلا أنه لا يحوي من يحمل روحا نابضة تعيش من أجل الحياة وحدها، فما هو إلا عالم مظلم يطفئ ما بداخلنا، ويسحبنا إلى غياهب التيه العظيمة التي تتلقفنا بدورها لتجعلنا ضائعين غير مبالين لما نحن فيه، فترانا لا نأبه بحالنا لأننا لا نشعر بأنفسنا، فما نحن إلا أشباح فارغة من الأرواح الحية، نسير ونساير ما يفرض علينا من غير شعور ولا قوة منا، نتخلى عن أحلامنا متحججين بأعمارنا التي قضيناها كما يقضيها الجميع، من لعب متواصل إلى دراسة مفروضة وزواج منتظر ووظيفة تربية محتومة. فإن كان لحياتنا تعريف، فإنها تتجلى في تلك المراحل السابقة السريعة، والتي أجزم أنك لا تشعر بها إطلاقا، فأنت دائما ما تتلهف لما بعدها، ترجو مرورها بسرعة كي تجرب ما بعدها، من غير أن تشعر وتعيش شيئا، فنحن في ماراثون مع الزمن الضاحك لأشكالنا من خلفه، ننظر ونحلم بالوصول إليه، فنغرق في أحلامنا الخيالية، وننسى واقعنا الذي نعيشه، نسابقه ونركض بأسرع ما نملك، فنفقد حواسنا الحية وروحنا النابضة، والزمن بأكمله. أتعتقد أني مجنونة بكلامي ذاك؟ أتفكر في قلب الصفحة والانتقال إلى مقال آخر سياسي أو اجتماعي يطيحك في كذبة أخرى؟ هاهاها، أرجوك توقف عن الكذب على نفسك، وسأتوقف أنا أيضا عن ذلك، اغمض عينيك، وتذكر كل حياتك، أخبرني هل فعلت شيئا ذا قيمة، أم أنك قمت بما يفعله الغالبية العظمى من هذا العالم؟ هل أسعدت فقيرا أو أنقذت روحا أو رممت قلبا؟ هل زرعت زهرة أو ألقيت ابتسامة أو وضعت بصمة؟ هل فعلت ذلك، أم أنك بقيت هناك على الأريكة تأكل وتطالع هاتفك وتحلم متوعدا، وتقوم بكل تلك الأمور الواجبة والمتوجبة؟، هل عشت حياتك كما يقولون؟ هل شعرت ورأيت وأصغيت إلى داخلك وما حولك؟ هل غرقت في كل الأمور التي تقوم بها؟ وهل جربت أن تدخل شيئا على حياتك الروتينية المتكررة؟ أسالك بالله، هل أنت "عايش" بحواسك ومشاعرك كما يفترض أن تعيش؟ أم أنك هائم ضائع تكذب وتواصل الكذب على نفسك في هذا العالم الكاذب هو الآخر؟ لا تخبرني، فأنا على علم مسبق بإجابتك، أخبر نفسك فقط، واعترف بالحقيقة حتى لو كانت مرة يصعب تصديقها، حرر نفسك من هذا الفراغ الذي تعيشه حتى لو كان جميلا كما يتصور لك، فصدقني ستندم ما إن تبلغ السبعين من العمر، أصغِ جيدا وافتح بصيرتك وأطلق شواعرك للعنان، قف من على هذه الأريكة وتوقف عن الكذب والعيش في كذبة. تحرك فما زلت حيا، وما زالت الحياة أمامك.