د. معتصم صديق عبدالله مثلما فعلت إيران في السودان، كذلك فعلت في نيجيريا، وذلك في إطار هدف كبير سعت إلى تحقيقه وتمثل بتصدير الثورة ونشر التشيع في القارة الإفريقية التي أولتها أهمية كبيرة واستثنائية. وتشبه العلاقات النيجيرية الإيرانية إلى حد كبير علاقات الأخيرة مع السودان (تحدثنا عن الوجود الإيراني في السودان في عدد أمس)، فقد عملت إيران على إبرام عدد من الصفقات مع الحكومات النيجيرية المتعاقبة، مع التركيز على البعد الثقافي المتمثل في بناء المساجد وتشييد المدارس الدينية، في محاولة منها لتهيئة الأرضية للوصول إلى هدفها الرئيس، وهو نشر المذهب الشيعي وسط المجتمع النيجِيري، عبر تنشيط أذرعها المباشرة والخفية، مستغلة في ذلك الموالين لها والمتعاطفين معها من النيجيريين. وتمثل نيجيريا واحدا من أكبر تجمعات المسلمين في غرب إفريقيا، إذ تبلغ نسبة المسلمين فيها أكثر من 55%، أغلبهم من السنة، وفي الولايات الشمالية لا سيما في كانو وكادونا وزاريا أقلية شيعية خاصة، أغلبها من المتأثرين بإيران. أسهمت المساعي الإيرانية خلال السنوات الماضية في تشييع أعداد كبيرة من النيجيريين، ويعد زعيم الشيعة النيجيريين إبراهيم زكزاكي من أبرز الموالين لإيران والمدافعين عن مشروعها لنشر التشيع في بلاده.
إيران تدعم زكزاكي للمحافظة على النشاط الشيعي دخل الإسلام نيجيريا في القرن الثامن الهجري، وظلت -ولا تزال- مالكية المذهب، لكن في مطلع الثمانينات من القرن الماضي بدأت مجموعة من الشباب اعتناق المذهب الشيعي، منهم إبراهيم زكزاكي الذي تخرج في جامعة أحمد بيلو. تأثر زكزاكي بالمذهب الشيعي بعد قراءته الترجمات الإنجليزية للكتب الشيعية التي كانت توزعها السفارة الإيرانية آنذاك، إلا أن زكزاكي لم يُظهِر تشيعه إلا في منتصف التسعينات عندما قدح في الصحابي الجليل أبي هريرة، فجُوبِهَ هذا القدح باستنكار شديد من عدد كبير من أنصاره، مما دفع كثيرين منهم إلى الانفصال عنه. بعد هذه الحادثة كثفت إيران جهودها لنشر التشيع في هذه البلاد، من خلال دعمها اللامحدود لإبراهيم زكزاكي وجماعته، في إطار محاولاتها الرامية لاستنساخ "حزب الله" في نيجيريا، للمحافظة على النشاط الشيعي فيها، ويتضح ذلك جليا في الدعم الكبير الذي تلقته هذه الجماعة من إيران، مثل الدعم العسكري والتدريبات التي أجرتها الجماعة لعناصرها على حروب العصابات واستخدام الأسلحة الخفيفة وتصنيع القنابل اليدوية. لكن الأحداث التي شهدتها مدينة زاريا في ديسمبر 2015 شكلت بداية النهاية لهذا المشروع الإيراني، وذلك عندما هاجم الجيش النيجيري حسينية "بقية الله" في زاريا التي تحصّن فيها عدد من أنصار الحركة الإسلامية بزعامة زكزاكي، الذين اتهمتهم الحكومة بتدبير محاولة اغتيال رئيس هيئة الأركان في الجيش الجنرال توكور يوسف بوروتاي، مما أدى إلى مقتل مئات واعتقال زعيم الحركة الذي لا يزال يقبع في السجن. فالجدل الذي أثارته إيران عقب هذه الحادثة كان له عظيم الأثر في رفض الوجود الإيراني في البلاد وتسليط الضوء أكثر على هذا الوجود والتنبيه لمخاطره، وسط دعوات إلى ضرورة التصدي له والتعامل معه بنفس الحزم الذي تجابه به الحكومة جماعة "بوكو حرام" المتطرفة. وتمثل الجدل الذي أثارته إيران في احتجاجها الرسمي لدى الحكومة النيجيرية على الهجوم الذي شنه الجيش على الشيعة، إضافة إلى الاتصال الذي أجراه الرئيس الإيراني حسن روحاني مع نظيره النيجيري محمد بخاري، ومطالبته إياه بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق في الحادثة. واستدعت الخارجية الإيرانية القائم بالأعمال النيجيري في طهران للاحتجاج على الحادثة، وطالبت السلطات النيجيرية ب"تحديد أبعاد الحادثة ومعالجة الجرحى والتعويض عن الخسائر والأضرار في أسرع وقت ممكن"، كما اتصل وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بنظيره النيجيري جيفري أونياما، وطلب منه أن تتحرك حكومته "فورا وبشكل جدي لتجنب العنف" ضد الشيعة في نيجيريا، الأمر الذي اعتبره النيجيريون تدخلا في شؤونهم الداخلية ومحاولة لنشر بذور الفتنة في البلاد.
فتور لم يمنع ظريف من المطالبة بإطلاق سراح الزعيم بعد حادثة هجوم الجيش النيجيري على حسينية "بقية الله" شهدت العلاقات الإيرانية النيجيرية فتورا ملحوظا، حتى موعد زيارة وزير الخارجية محمد جواد ظريف الأخيرة لدول غرب إفريقيا، التي استهلها بنيجيريا، والتقى خلالها الرئيس النيجيري محمد بخاري، وقد أبلغ ظريف السلطات النيجيرية -حسب تصريحات ممثل جامعة المصطفى علي فلاح زورومي- قلق بلاده إزاء الحالة الصحية التي يمر بها زعيم الشيعة في نيجيريا الشيخ إبراهيم زكزاكي، مطالبا الحكومة النيجيرية بإطلاق سراحه. كما أعلن مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية والإفريقية حسين جابري أنصاري، أن بلاده تجري مشاورات مع نيجيريا حول قضية الشيخ إبراهيم زكزاكي لتوفير إمكانية الإفراج عنه ومتابعة وضعه الصحي.
السودان يحجم علاقاته مع طهران ويعود لمحيطه العربي استعراض العلاقات الإيرانية النيجيرية، ومن قبلها الإيرانية السودانية يؤكد إسهام كثير من المؤسسات السياسية والدينية في السودان ونيجيريا في توعية الرأي العام الداخلي بخطورة الوجود الإيراني على النسيج الاجتماعي، وعلى أمن واستقرار إفريقيا عموما، وعلى السودان ونيجيريا على وجه الخصوص. لا تزال نيجيريا تتمتع بعلاقات سياسية مع إيران، ولكنها أدركت خطورة علاقاتها الثقافية معها فبدأت في ممارسة رقابة قوية ضد الجماعات الشيعية وتحجيم نشاطها. أما في السودان فقد أغلقت حكومة البشير الباب على إيران بعد قطع العلاقات السياسية وإغلاق المراكز الثقافية التي أسهمت في نشر التشيع. كما أدركت إيران حجم الرفض الشعبي الكبير واستحالة تحقيق أهدافها المتمثلة في تصدير ثورتها إلى السودان ونشر التشيع فيه في المستقبل. أما تأثير قطع العلاقات بين الخرطوموطهران على العلاقات الخارجية للسودان، فإن القرار يمثل رسالة إلى الأطراف الخارجية عموما، وإلى دول الخليج بشكل خاص، مفادها أن الخرطوم جادة في تحجيم علاقاتها مع إيران، وحريصة على عودتها إلى محيطها العربي، إدراكا منها لخطورة تداعيات التقارب مع إيران على حاضر ومستقبل البلاد. محاولة ملء الفراغ العربي في إفريقيا استغلت إيران الفراغ الثقافي والاجتماعي، وحتى السياسي، الذي أحدثه البعد العربي عن الساحة الإفريقية، وذلك عبر الاستفادة من أحد أهم مبادئ الثورة المتمثل في "نصرة المستضعفين" في شتى بقاع العالم، فوجدت في بعض دول إفريقيا، كالسودان ونيجيريا، أرضا خصبة ومناسبة لنشر المذهب الشيعي، الذي يمثل أحد أهم استراتيجياتها، في هذه القارة. كما سعت إيران من خلال علاقاتها مع السودان ونيجيريا وبقية الدول الإفريقية إلى تحقيق جملة أخرى من الأهداف. أهداف إيران في السودان ونيجيريا
تصدير الثورة الخروج من العزلة الدولية المفروضة عليها قبل الاتفاق النووي وبعده تحقيق بعض المكاسب الاقتصادية ممارسة نشاط استخباراتي في القارة إرسال عناصر من الحرس الثوري والمخابرات إلى الدول الإفريقية على هيئة رجال أعمال ومستثمرين إيران تركز على نيجيريا نيجيريا تمثل أحد أكبر تجمعات المسلمين في غرب إفريقيا يشكل المسلمون 55% من سكان نيجيريا أغلبهم من السنة ركزت إيران على بناء المساجد والمدارس الدينية الشيعية سفارة إيران في نيجيريا وزعت كتب التشيع مجانا وبكثرة