تميدُ لسيرهم الأرض، وعلى كثيبِ رملٍ قريب تطل طليعة قوافلهم. إلى بحر الظلمات جاؤوا بالأرسان قرابينَ رهانٍ جديدة، هبطوا مذللين رؤوسَ الإبل للتعب الساحلي، وللبياض النافر عن هاجس الضياع. رِجالٌ يصبُّون الخُطى غزوا، لهم حناجرٌ بارزة كلُقْيماتٍ عالقة، تهتز مع المضي ولا تنحدر، محزوزة بقدر ما ارتهن منهم للموت، وللريح الضارية. شائطي البطون يفتدون فَم الموتِ بصُراخ المواليد خلفهم، وبصدورِ النساء حين يتوالد خفقها على شُحِ الخرز واهتراء القلائد. وراءهم أهلٌ لا يحابون إذا ما تيمموا محراب البحر بثياب مهلعة: لا تعودوا .. لا تعودوا إلى الموت إلا بقمع من السماء / من الماء، لا تعودوا إلا بشاهدٍ صقيلٍ حارق. تنكفون عنه رِماحَ الشمسِ وجشع الماء حين تستلون رقاب هربه من الموج، يباغتكم دخيلاً باكيًا بدمع متماسك .. أو لا تعودوا..! ترغي جِمالُهم كلما انغمس جفافُ أخفافها في الوحل، ضامرة البطون على جَنْبَي كلَّ واحدة منها أوعية فارغة، نُسجت من خِرَقٍ باليةٍ و سعفٍ لنخيل لم يعد ينقذُه السِّقَاء. يُشمِّرُون عن سواعدهم للرفق بنحور المطي، ومهادنتها على القسوة، لا يرفعون عليها عصيَهم، تحنُّ عليهم كما تحنُّ على ولدانها. لحظة الوصول تتزحزح بقوائم يابسة لعُسر المبرك، وسياط الحُمول المُنتظرة. يتركون أحدَهم يتلو عليها العزاء؛ رتيلًا حزينًا للصحارى المكتسية بالنبت وظل الشجر، ثم يناشد قواها المنهكة؛ صبرًا.. أن تُغيث حال الديار. ينزلقون للحر بجلود جرداء من الشَّعَر، سُمرتُهم لاصقةٌ من صلابة عظامهم، والعرق المتصبب لا يهون عنهم مياسِمَ الاكتواء، بل ينذرهم قصبةَ نهارٍ طويلة، ستباغتهم بالابتلاع. توشكُ أن تمتلئ أوعيتُهم، تتلاقى عيونُهم شررًا مقيمين ظهورهم عدا واحدٍ منهم يُكيل جُهدًا على قالب ضخم، ودون أن تنشق أفواهُهم عن قضم العناد يهوون عوناً لرفيقهم، يفتتون القالبَ متممين به حمولَهم، وقافلين يجرون حُلُم الغنيمة. تنهض بهم الرِّكاب، ولكي لا تنفرط أفواه مواعينهم المثقلة فينتثر الجمعُ العصي، يسندون لها أكتافَهم إلى أن يستوي المسير. ثم يعودون منتشين لهبوبٍ تُجفف نحورَ المطي، وتُسارع خطوَهم للشمال، وللموت المنتظر. غُزاةُ السواحلِ في السوق، قابضين ثمن الفدية، يهبون نصيباً منها لأشفار السفن الحمراء، ويخمدون عن ظهورها باقيةَ اللهب. يحدون لها مُجددًا على المشارف، يصفقون للكثبان، وللديار، ولأهل الديار: عائدون لَكَ .. فانزح عن الديار لكَ أن تمتطي سُودَ الأغْربة تحْمِلُكَ كما تحملنا إلى البعيد حين صلبنا لك الراية البيضاء ارحل أيها الموت للاستسلام تستقبلهم حياة الديار .. أهالي الديار يلوحون للمغامرين، وهازمي جبروت الملح، قَدرُ السواحل أن تناطح صلابة الملح؛ جِبَاهًا حينما تتأخر لائحةٌ البروق عن ليل ديارهم. يقدحون زِناد الأجساد، ويلثمون زحف العطش عن منازلهم لوهلة يُغِيرُون فيها على البحر، ولا يعودون إلا بأكياس من الملح يذرونها على القروح، يسيغون بها لقمةَ عيشهم، متوارثين ومورثين: الملح.. آخر الأرزاق، الملح.. ذهب السواحل.