"كلمة.. وكلمتين"، مجموعة تأملات وأفكار، تدور حول مواضيع شتى رابطها أنها شبكة متشابكة من الجسور التي عبر عليها المؤلف حسب قوله نحو صناعة ما هو عليه اليوم في هذه الحياة فكراً وروحاً. و"كلمة.. وكلمتين" مكتوب بلغة سلسة بسيطة تركز على حقيقة النجاح، ذلك المطلب الذي يسعى له الجميع. المؤلف ساجد العبدلي طبيب كويتي متخصص في مجال الطب المهني والبيئي. مدرب محترف في عدد من مجالات التنمية البشرية والإعلام. إعلامي وكاتب.
رحلة البحث عن الجيد لا يقترب من روعة قراءة رواية جيدة سوى مشاهدة فيلم جيد. الرواية العبقرية الرائعة يستطيع المخرج المبدع أن يخرج منها بفيلم عبقري رائع أيضاً، ولكنه، أي الفيلم، سيظل دونها ولا شك، حتى إن اقترب منها حتى كاد يلامسها أو ربما يلتصق بها، وذلك لأن الفيلم يلغي تلك الفسحة التي يمنحها مؤلف الرواية، بقصد أو دون قصد، للقارئ ليملأها بخياله وتصوراته، فيساهم القارئ بنفسه في تخليق الصور والألوان والعوالم التي تتواءم ومزاجه وذائقته ونفسيته، لتزيد من متعة قراءته وامتزاجه مع النص الذي بين يديه. الفيلم، بطبيعة الحال، يأتي ليملأ هذه الفسحة ويعبئ فراغات الخيال بصور وألوان وأشكال من تخليق المخرج الذي يضعها جاهزة للمشاهد في إطار الشاشة، ولو لم يفعل ذلك لقلَّت جاذبية الفيلم أصلاً. أما الرواية العادية، وربما الأقل من ذلك، فمن الممكن، بيد مخرج مبدع عظيم، وبكثير من الجهد طبعاً، أن تتحول إلى فيلم ممتاز، وربما رائع، ولكن الأمر في هذه الحالة أشبه ما يكون بعمل جديد، فالمخرج هنا يكون كمن قام بعملية إعادة بناء وتصنيع كاملة استناداً إلى أساسات ”الكونكريت“ من المبنى السابق لا أكثر. لهذا، فالروائي الإيطالي الشهير إمبرتو إيكو، صاحب رواية ”اسم الوردة“ التي حققت نجاحاً باهراً وانتشاراً واسعاً، يرى أن الفيلم الذي قام على روايته هذه هو وبكل بساطة ”عمل شخص آخر“، فبالرغم من نجاح الفيلم وروعته وثقته وإعجابه بما قام به مخرج الفيلم جان كلون آنو، فإنه قد قرر عدم السماح بتحويل رواياته إلى أفلام من بعد هذه التجربة. وللسبب نفسه، يرفض كثير من الكتّاب العظام الآخرين تحويل رواياتهم إلى أفلام، إما مطلقا وإما، على الأقل، بعد مرور وقت طويل على صدور الرواية، وذلك خوفاً من الإساءة إليها، أو تحولها إلى عمل آخر. لكن مع هذا، فلا يمكن أن نغفل حقيقة أن الأفلام اليوم أكثر رواجاً من الكتب بين عموم الناس، بل إن لبعض الأفلام الفضل في انتشار الروايات التي قامت عليها، حيث دفعت من شاهد الفيلم إلى البحث عن الرواية لقراءتها، ولهذا فلست ممن يصرون على أن الثقافة إما أن تأتي مشحونة في كبسولة الكتاب وإما فلا، وإن كنت في ذات الوقت لا أزال، وسأظل، مؤمنا بأنه لا شيء يعدل الكتاب الجيد لعملية التثقيف والمعرفة، وبالنسبة إليّ، كل كتاب هو كتاب جيد بشكل من الأشكال، أو عند قارئ من القراء، ولكن هذا حديث آخر. المهم عندي في نهاية الأمر، أن تجد الناس مصادر جيدة للتثقف والتعلم والاستنارة.
أنصت يحبك الناس سأبدأ هذا الموضوع، من قمة رأسه، بسرقة سافرة لعنوان الكتاب الشهير للصديق الحبيب، محمد النغيمش: "أنصت يحبك الناس'"، وذلك من باب "الميانة الأدبية". "أنصت يحبك الناس". هذه العبارة الرشيقة الجميلة، التي لعلها قد صارت اليوم مثلاً سائراً من كثرة تردادها، هي عبارة صادقة جزلة جداً، فهي تجسد واقعاً معاشاً يمكن أن يلمسه كل إنسان، لو هو أمعن النظر في مجريات حياته الاجتماعية اليومية. الإنصات الجيد من أهم المفاتيح التي تفتح مغاليق النفوس، وتكسر الحواجز بين الناس، وتقربهم من بعضهم، وكل من حاز هذه المهارة يدرك هذا جيداً، ويعرف أثره البالغ في حياته، ولهذا فستظل النصيحة الغالية والصالحة في كل مكان وزمان لكل إنسان في أي موقع كان، هي التي جعل لها صديقي محمد النغيمش كتاباً كاملا يتحدث عنها: "أنصت يحبك الناس"!. نتعلم فن السير على الحبال ينحدر تينو واليندا - لاعب السيرك الشهير - من أسرة كانت تمارس لعبة السير على الحبال أباً عن جد منذ أكثر من قرن من الزمان، سألوه مرة: "كيف تبقى ثابتا متوازنا على الحبل ولا تسقط؟"، فأجاب: "في الحقيقة أنا لا أكون ثابتا متوازنا على الحبل أبدا، بل أنا في اهتزاز دائم، لكنني أقوم بتعديل وضعيتي طوال الوقت حتى لا أسقط، وذلك بحركات صغيرة مستمرة في مختلف الاتجاهات، وهذه الحركات المستمرة هي ما تبقيني متماسكا على الحبل. إن الثبات على الحبل يعني - في الحقيقة - السقوط". إجابة واليندا جعلتني أتأمل، وأعكس الأمر على الحياة عموما، فحياة الإنسان، مهما كان منظما مرتبا دقيقا، لا يمكن أن تكون متزنة تماما، بل هي في الحقيقة مليئة بالاهتزازات، الصغيرة والكبيرة، تماما كاهتزازات لاعب السيرك الواقف على الحبل، وذلك لأنه مهما ظن الإنسان أنه مسيطر على كل شيء في حياته، فستظل أمور كثيرة خارجة عن إرادته بطبيعة الحال، ولا يمكن له أن يسيطر على مفاجآت الزمان ولا على تقلب صروفه، ولا يمكن له كذلك أن يضمن انضباط واتزان الناس من حوله، ممن لا يمكنه إلا أن يتعامل معهم، وأن يتقاطع دربه مع دروبهم. لذا فإن هذه الحقيقة تحتم على الإنسان ألا يركن كثيرا لظنه بأن أموره تحت سيطرته تماما، بل لا يجب له حتى أن يحاول السعي إلى جعلها كذلك، لأنه سيخالف بذلك سنة الأشياء التي أجراها الله سبحانه، ولن يفلح في ذلك أبدا. بل إن ما يجب عليه حقا هو أن يبذل جهده بالقدر الممكن المعقول في الوقت نفسه، أي بلا إفراط ولا تفريط، وذلك لضبط الأمور في حياته، فيبقى يقظا ناحية الأمور التي تخرج عن إطار التوازن، فيعدِّل هنا ذات اليمين وهناك ذات الشمال، ويرفع هذه ويضع تلك، ويبعد هذا ويقرِّب ذاك، وهكذا تستمر الحياة بهذه الحركات المستمرة من إعادة الضبط والاتزان. هذا الأمر مهم جدا، لأنه حين يغفل الإنسان عنه لفترة طويلة من الزمن سيجد أن الأمور التي خرجت عن مسارات الاتزان قد انحرفت بعيدا جدا، مما سيتطلب منه الكثير من الجهد جسديا ونفسيا، والكثير من الوقت حينها لإصلاحها وإعادتها إلى مساراتها، هذا إن كان يمكن له ذلك أصلا آنذاك، ولم تصل الأمور إلى مرحلة مستفحلة يتعذر معها العلاج، أو مرحلة ستخلف إصابة أو جرحا بليغا على أقل تقدير.
البواطن والظواهر
في روايته الشهيرة الشامخة "مئة عام من العزلة" يحكي الكولومبي المبدع جابرييل جارسيا ماركيز صاحب جائزة نوبل، من ضمن ما يحكيه على مدى أجيال ستة، عن قرية أصيب أهلها بحالة عجيبة تسبب النسيان، فأخذت العدوى تسري بين سكانها واحداً تلو الآخر، ويحاول شخص نجا من ذلك أن يساعد أهل القرية عن طريق وضع لافتات وملصقات كتب عليها أسماء الأشياء اليومية والأحداث، مثل "هذه طاولة" و"هذه بقرة يجب حلبها كل صباح"، وعند مدخل القرية نصب لافتتين ضخمتين كتب على الأولى "اسم قريتنا هو ماكوندو"، وعلى الثانية الأكبر حجما "إن الله موجود". رواية جميلة، لكن من يقول إن وباء قرية "ماكدونو" حبيس بين دفتي رائعة جارسيا؟! إن هذا غير صحيح فالعدوى منتشرة بيننا، ألستم معي بأن نسيان المبادئ، والأخلاق، والقيم، والخلط بين الحلال والحرام، صار سمة بارزة لمجتمعنا؟! أليست الصحف تنقل لنا وبشكل يومي أخبار الفساد والرشاوى والصفقات المشبوهة والعمولات والتلاعب والسرقات على مختلف المستويات ومن مختلف الجهات؟! إذن فالنسيان يكتسح أغلب مجتمعاتنا، من القاع وصولاً إلى القمة مروراً عبر كل مفاصلها وعظامها. يوم كنت حديث السن، كنت أنخدع كثيرا بالمظاهر الخارجية، فلبساطتي كنت أظن الرجل الملتحي، أي ملتح، هو رجل ملتزم "لا ينسى الله" أبداً، والمرأة المحجبة، أي محجبة، هي امرأة فاضلة ملتزمة بالدين وأخلاقها "عشرة على عشرة"، ودع عنك المرأة المنقبة، فهذه كانت في خيالي نموذجاً يمشي على قدمين للدين والأخلاق والقيم، ويحمل تعاليم الله في صدره أينما صار وحل. اكتشفت أن هذه الدنيا مثل صندوق "باندورا"، مليئة بالعجائب، اكتشفت أن اللصوص ليسوا فقط من المحتاجين، بل إن هناك لصوصاً من أغنى الأغنياء، لصوص يخطفون بلدانا بأسرها، بأهلها وثرواتها، بحاضرها ومستقبلها، اكتشفت أن حرف الراء في معادلة "الحامي والحرامي" حرف "سرابي"، قد يظهر ويختفي بحسب الظروف والتوقيت وبحسب اتجاه الريح، وأن كثيراً من الناس يؤمن بمقولة: "إن هبت رياحك فاغتنمها"، ولكن على طريقتهم الخاصة!
كن إيجابيا لم أكن أتصور حين بدأت تلك الحملة التحفيزية المصغرة على شبكة الإنترنت للمناداة بالإيجابية أن أواجه هذا العدد الكبير ممن لا يدركون المعنى الصحيح لمصطلح "الإيجابية"، فيقابلون نشاطي بالاستهزاء، بل أحيانا بالهجوم، متهمين إياي بتسطيح الأمور وتخدير الوعي وتغييبه عن إدراك الواقع وما تحيق به من صعوبات ومشاكل وآلام، لكن من يظن حقا أن الإيجابية هي هكذا يا سادتي، يظلمها والله ظلما كبيرا، لأنها أبعد ما تكون عن هذا التصور. الإيجابية لا تعني مطلقا أن يخدع الإنسان نفسه فيقول إن الدنيا كلها ربيع وإن الجو بديع، وإن الألوان في هذه الحياة كلها ليست سوى تدرجات عن اللون الوردي، هذا ضرب من ضروب الحماقة، بل رمي بالنفس إلى التهلكة. الإيجابية الحقّة تعني أن يكون الإنسان مدركا تمام الإدراك ما يجري حوله، وأن يعرف شكل المشاكل والمعوقات وحجمها ومصادرها، ويدرك أن في هذا الواقع كثيرا من المصائب والابتلاءات، وأن كثيرا من الناس سيواجهون تحديات وصعوبات في حياتهم، وأنهم سيخفقون فيها ويصابون ويتألمون، وأن هذا كله من سنن الله الماضية التي ستستمر حتى قيام الساعة. الإيجابية الحقة تعني أن على الإنسان عند مواجهته للمعوقات والفشل أن يفكر بالدروس الخفية والحلول المحتملة والثمرات المستخلصة منها، فيأخذها ويجعلها بذورا لمحاولات الغد السائرة به نحو النجاح، لا أن يجلس طوال الوقت يجتر مفردات المشكلة وتعقيداتها وآلامها، ويرفض حتى مجرد التفكير أن هنالك حلاً ما في مكان ما، كمن يلفّ حبلاً حول عنقه ليخنق نفسه. كما أن الإيجابية ليست أمرا محصورا بأناس بعينهم دون سواهم، بل هي طبيعة وعادة يمكن التطبع بها والتعود عليها، وكما قال النبي الهادي البشير عليه الصلاة والسلام: ”العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم“، ولهذا فعلى الإنسان أن يذكّر نفسه بأهمية أن يكون إيجابيا كي لا يقع فريسة للإحباط والكآبة، وعليه أن يبحث عن كل ما من شأنه أن يعزز هذه الحالة في نفسه، فيرافق الصديق الإيجابي ويرتاد المجالس الإيجابية ويتابع الأخبار الإيجابية ويقرأ الكتاب الإيجابي، وأن يبتعد في المقابل عن كل ما يرتبط بالسلبية والتشاؤم وأهلها ودروبها وأدواتها.
ماذا يقول القائد؟! يُعدّ الرئيس الأميركي إبراهام لنكولن (1809-1865) اليوم، وبحسب دراسات المؤرخين والعلماء واحدا من أعظم رؤساء أميركا، بل القادة في التاريخ الحديث، إلا أن هذا الرئيس الفذ، كان قد واجه في الحقيقة خلال فترة حكمه وإدارته لمنصبه معارضة شديدة، ومواجهات عنيفة من خصومه، ولهذا كان في ذلك الوقت حين كان في منصبه من أقل الرؤساء الأميركيين شعبية، فلطالما كانت وجهات نظر ومواقف لنكولن مختلفة عمن جايلوه من الساسة، وقد بدأ الأمر يوماً عندما كان مجرد عضو في الكونجرس، حيث اشتهر آنذاك بموقفه المعارض للرئيس الأميركي جيمس بولك، إزاء الحرب في المكسيك، حيث كان لنكولن يرى أن تلك الحرب خاطئة من الأصل لأنها لم تقم على أسس عادلة. وقد تعرض لنكولن للهزيمة الانتخابية لمرات عديدة في مناصب مختلفة، منها: مرتان لعضوية مجلس الشيوخ، قبل أن يتم انتخابه في منصب الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة في عام 1860، بفارق ضئيل جدا عن منافسه الديمقراطي. واستمرت حملات السخرية، بل الهجوم على مواقفه ومعارضتها من خلال الصحافة بعد توليه منصب الرئيس، إلى درجة أن أحد رؤساء تحرير واحدة من أبرز الصحف في ذلك الوقت كتب مؤلبا المقربين من لنكولن ضده، متمنيا أن يتخلص منه أحدهم كما تخلص بروتوس من قيصر بطعنة خنجر! لكن، وبالرغم من كل هذا، ولأن لنكولن امتلك الجرأة والشجاعة لاتخاذ تلك القرارات التي توافقت مع ضميره وإيمانه ورؤاه، بالرغم من أنها كانت على حساب شعبيته، وعلاقاته بأصدقائه الذين خسر منهم الكثير، أصبح اليوم نجما في سجل التاريخ الذي خلّده على أنه (الرئيس الذي أنقذ الأمة الأميركية) و(القائد المحرر للعبيد)، ولكم أن تتخيلوا كيف كان سيكون شكل الولاياتالمتحدة الأميركية اليوم، لو لم يخرج فيها لنكولن، ذلك القائد سيئ الصيت ضعيف الشعبية في عصره! نعم للقائد الناجح خصال كثيرة، لكن أهمها من وجهة نظري هي هذه الخصلة العظيمة النادرة المتمثلة في الشجاعة والقدرة على اتخاذ القرارات غير الشعبية، والقيام بما هو مخالف لما ساد بين الناس، فهذه القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة، والسباحة بها عكس التيار الذي قد يبدو أنه تيار الأغلبية، لا الاكتفاء بمجرد التفكير والتلويح بها من بعيد، هما ما يفرق بين ما يسمى بالرئيس وما يطلق عليه اسم القائد.
واعظ وبيده رشاش!
شاهدت منذ مدة فيلماً غريباً بعض الشيء، اسمه (Machine Gun Preacher)، وسأترجمه إلى "واعظ وبيده رشاش"، وقد كنت ظننته في البداية مبنياً على قصة خيالية مختلقة، وإذا بي أفاجأ في نهايته بأنه قائم على قصة حقيقية. بعدما خرجت من الفيلم بحثت عن القصة في الإنترنت، فوجدت كثيراً من المصادر تتحدث عنها، بالإضافة إلى موقع رسمي عن بطل الحكاية. تدور الحكاية "الحقيقية" حول "سام تشيلدرز"، وهو رجل عصابات سكير ومدمن على تعاطي المخدرات، قضى سنوات طويلة من عمره في حياة الإجرام وفي السجون، ليفيق في لحظة من اللحظات بعدما ظلت تطارده عبارة لأبيه قالها له يوما، حينما رآه راتعا في ذاك الفساد الكبير وكاد ييأس منه: "يا بني، ستموت مقتولا في يوم من الأيام". وشيئا فشيئا يبدأ سام بالمواظبة على حضور الكنيسة بتشجيع من زوجته، والاهتمام بشؤون عائلته أكثر، والحرص على الابتعاد عمن كان يرافقهم من السيئين، وكذلك التوقف عما كان يفعله، بعدما وجد عملا جيدا في مجال البناء، تطور إلى أن يؤسس شركة صغيرة خاصة به في ذات المجال. ذات مرة، أخبره القس المسؤول عن الكنيسة التي يحضرها، عن عمل تطوعي ستسافر من خلاله بعثة لمساعدة المتضررين من الحرب في جنوب السودان (في عام 1998)، ودعاه لمرافقتهم، ففعل، لتحمل له تلك الرحلة في طياتها نقطة التغيير الأقصى في كل حياته، وذلك بعدما شاهد جثة طفل نازفة تقطعت أوصالها بفعل انفجار لغم. تكررت زيارات سام بعد تلك الحادثة إلى جنوب السودان، فقرر أن يبني ميتماً ليؤوي فيه الأطفال الذين فقدوا عائلاتهم في تلك الحرب المستعرة، وعاد إلى ولايته "بنسلفانيا" ليبيع شركته الصغيرة التي كان أسسها للعمل في مجال البناء، ويأخذ المال لينطلق مجددا نحو جنوب السودان، لينفذ حلمه ببناء ذلك الميتم بتشجيع من زوجته. ومن مفارقات المسألة أن سام اضطر أن يقود قوة مسلحة صغيرة لحماية ذلك الميتم، تطورت مع الوقت للقيام ببعض العمليات العسكرية المتفرقة، للإغارة على القرى المحيطة وتخليص الأطفال من أتون الصراع الدائر وإلحاقهم بالميتم. وعلى مدى ثلاثة عشر عاما، قضاها في مجاهل جنوب السودان، استطاع أن يؤوي ويطعم أكثر من ألف طفل يتيم. ولا يزال سام حتى يومنا هذا يعيش في بنسلفانيا هو وزوجته وابنته، ولا يزال كذلك ملتزما بذات الحلم القديم، بأن يعمل كل ما في وسعه لمساعدة أولئك الأطفال اليتامى. قصة ملهمة حقا، تتفوق عليها في واقعنا المعاصر قصة الدكتور عبدالرحمن السميط، الذي نذر عمره كله لأجل اللجنة الخيرية التي أسسها لتعمل عبر سنوات طويلة، وحتى هذه الساعة، في بلدان كثيرة في إفريقيا، للإغاثة والدعوة. والدكتور السميط أشهر من أن يعرَّف، فهو نار على علم. هو الطبيب الكويتي الذي رمى مباهج الدنيا التي نعرفها وراء ظهره، وأقبل على هذا العمل المجهد في تلك البقاع الصعبة من هذا العالم. ليس أعظم من أن يكون للإنسان هدف سامٍ ونبيل، يقضي حياته لأجله، حتى ولو رآه البعض قطرة ستضيع في بحر المشكلة، لأن الإنسان عندما يؤدي دوره، ويقوم بعمله، ولو تجاه إنقاذ شخص واحد، فإنه يكون كمن أنقذ الناس جميعا.