شكل الفساد في تونس عاملا أساسيا في انهيار النظام السابق لزين العابدين بن علي، وتركز الحكومات المتعاقبة على محاربة جميع أشكاله، غير أن الأرقام تكشف أن هذه الظاهرة ما زالت أكبر عائق أمام تحقيق نجاحات اقتصادية، أو الخروج من الأزمة المالية الراهنة في البلاد. وكانت الثورة في تونس قامت لمكافحة الفساد وتحقيق العدالة، غير أن مراقبين يرون أنه أصبح ظاهرة منتشرة تنذر بإرباك الاقتصاد التونسي، وتسهم في تعزيز أزمة الثقة بين المواطن وأجهزة الدولة وتزيد من تشويه صورة تونس لدى المستثمرين. ورغم أن ترتيب تونس تراجع في تصنيف مكافحة الفساد، للعام الماضي ثلاث درجات، لتحل في المركز ال76 من بين 168 دولة، بحسب ما نشرته منظمة الشفافية الدولية، فإن البلاد ما زالت تحتل مرتبة متقدمة في مؤشرات الفساد، بل هي مصنفة من بين الدول الأكثر فسادا في العالم، وفق تقارير منظمات إقليمية ودولية، وهو ما أرجعه ناشطون في المجتمع المدني إلى التراخي الحكومي في محاربة الفساد وغياب إجراءات عملية لمكافحته من قبل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة وعدم سن قوانين صارمة تردع الفاسدين. وشهدت تونس خلال السنوات الأخيرة عشرات الاحتجاجات التي قادها أهالي الجهات الداخلية وعمال غاضبون، بسبب تنامي الفساد المالي والإداري في العديد من القطاعات الحكومية والخاصة، على غرار المحسوبية والرشاوى.
دولة المافيا حذر رئيس الهيئة الوطنية التونسية لمكافحة الفساد، شوقي الطبيب، من تحول تونس إلى "دولة مافيا"، إذا لم يتم ضبط إستراتيجية وطنية في هذا الصدد، خاصة أمام ما تواجهه الهيئة من تعقيدات في معالجة الملفات، حيث لم يبت القضاء سوى في 10% من ضمن 3000 ملف. وأشار الطبيب إلى تزايد الفساد في تونس، وبلوغه مستويات غير مسبوقة، مضيفا أن تغلغله في مفاصل الدولة تجاوز الخطوط الحمراء، وبات يهدد المسار الديمقراطي. وأكد أن المنظمة تعاني ضعف الإمكانات في مواجهة لوبيات كبيرة وضاغطة ونافذة، مشيرا إلى أن بعضها أو معظمها متنفذ في أجهزة الدولة والإدارة، وأن عدد ملفات الفساد المتعلقة بمسؤولين حاليين في الحكم فاقت 50 ملفا. وأوضح الطبيب أن ملفات الفساد معقدة، وأن المتورطين فيها يملكون قدرة مالية كبيرة وقدرة فائقة على التمويه والتضليل، مشيرا إلى "وجود مسؤولين في مؤسسات حكومية يقومون بتأسيس جمعيات ويحولون مداخيل المؤسسات العمومية، إلى تلك الجمعيات"، إضافة إلى أن هناك تحايلا كبيرا على الصفقات العمومية، مستشهدا بتقارير تشير إلى أن ما خسرته الدولة سنة 2014 كان في حدود 18 % من قيمة الصفقات وربما ارتفعت النسبة إلى 30 %، حسب قوله. وأشار إلى أن "بعض الملفات موجودة منذ فترة، غير أن المسؤولين وحتى بعض الوزراء تجاهلوها"، لافتا إلى إمكانية "تعرضهم لضغوط"، مشددا في الوقت ذاته على أن ظاهرة الفساد "تشمل كل القطاعات، منها الانتدابات في الوظيفة العمومية".
تحذير دولي أشارت المنظمات والهيئات العالمية إلى ارتفاع منسوب الفساد في كل أجهزة الدولة التونسية، مما سيهدد بإجهاض المسار الديمقراطي التي شهدته تونس منذ أحداث الربيع العربي. وعن نبذ الفساد والمحسوبية، أكد رئيس مجموعة البنك الدولي، جيم يونج كيم، أن "الحكومة التونسية إذا لم تصغ للشعب في نبذ آفة الفساد فإن المصير حتما سيكون كمسار تونس ما قبل الثورة"، مضيفا في تقرير عن الاقتصاد العالمي أن تراجع الفرص الاقتصادية في المناطق التي تعاني مشاكل جيوسياسية أسهم في أسوأ أزمة بعد الحرب العالمية الثانية. وكان البنك الدولي حذر في تقارير سابقة من أن حجم الفساد يظل مصدر قلق كبير ليس فقط من جهة الأموال التي فقدتها تونس إثر فساد الشركات المملوكة لأسرة الرئيس السابق بن علي، أثناء حكمه طوال 23 عاما. في سياق متصل، أكد تقرير حديث للبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، تفشي الرشوة في تونس ومصر بدرجة أكبر من الأردن والمغرب، مبينا أن الفساد الذي كان سببا في قيام الثورات في العالم العربي تطور بدرجة كبيرة في تونس، واصفا إياه بأنه أبرز العراقيل التي تواجه الشركات والاقتصاد. وذكر التقرير أن عدم الاستقرار السياسي والفساد وممارسات المنافسين في القطاع غير الرسمي، هي أبرز القيود التي تواجهها الشركات في مصر وتونس، وبدرجة أقل في الأردن والمغرب، وذلك في وقت أثبتت الظاهرة أنها تحولت من تصرف شاذ إلى ممارسة منظمة في صلب دواليب دولة، سقط رأس نظامها دون أن تتأثر جذوره برياح التغيير. وتقدر كلفة الفساد في تونس، بحسب تقرير منظمة الشفافية الدولية، بنسبة 2% من الناتج الداخلي الخام، أي ما يعادل نقطتين من نسبة النمو السنوية. وتشهد العديد من المؤسسات الحكومية في البلاد على غرار المؤسسة الأمنية والجمارك، انتشار الفساد بسبب تغلغل المال السياسي ووقوع جزء من هذه الأجهزة تحت سيطرة رجال الأعمال.
توقيع اتفاقية أكدت الحكومة خلال توقيع اتفاقية الموقع الإلكتروني جمع وزارة الوظيفة العمومية ومكافحة الفساد، والهيئة التونسية لمكافحة الفساد ونظيرتها الكورية، أنها تسعى إلى إقامة منظومة تبليغ عن حالات فساد إداري، تكون ناجعة، ويشارك عبرها المواطن في مسار الإصلاح ومكافحة الفساد. وقال الوزير المكلف بالحوكمة ومكافحة الفساد، كمال العيادي، خلال حفل توقيع الاتفاقية، إن "المنظومة الجديدة للشكاوى والتبليغ عن حالات الفساد، هي تبنٍّ لنظام ذي جدوى يقوم على نوعية جديدة من الخدمات من شأنها أن تضفي الجودة المطلوبة على الإدارة العمومية التي تواجه تحديا كبيرا يتمثل في إعادة الثقة في علاقتها بالمواطن". وأضاف العيادي أن بلاده "تهدف إلى تكريس المبادئ الأساسية الواردة في الدستور، من ضمنها حياد الإدارة والشفافية والقدرة على الإنجاز والمساءلة أمام الهياكل المعنية عن الشكايات المقدمة ضدها من قبل المواطنين". وأكد أنه في إطار العمل على تطوير هذه المنظومة وتعميمها على الإدارات والمؤسسات العمومية، فإنه سيتم ربط 70 مؤسسة منها بالبوابة الإلكترونية المذكورة لتلقي الشكاوى المتعلقة بها مباشرة. ورغم أن تونس أصبحت نموذجا للانتقال الديمقراطي في المنطقة، فإنها لا تزال تواجه انتشار الفساد والمحسوبية من جهة، وتعاني ضغطا كبيرا من جهة ثانية لتنفيذ إصلاحات تساعد في إنعاش اقتصادها وخفض العجز، خاصة مع تراجع إمكانات الدولة منذ أكثر من خمس سنوات. وتعمل البلاد في مقابل ذلك بخطى حذرة تحت ضغط التحركات الاحتجاجية للشارع التونسي رفضا لوضع البلاد الحالي الذي تحكمه الرشاوى والمحسوبية والفساد في أغلب القطاعات.
تعهدات حكومية من أجل الحد من استشراء الفساد داخل أجهزة الدولة، أعلن رئيس الحكومة التونسية، الحبيب الصيد، عن جملة من المبادرات، منها إحداث وزارة الوظيفة العمومية والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد التي أحدثها رئيس الحكومة في التعديل الوزاري أخيرا، بالإضافة إلى إلزام الوزراء بالإمضاء على ميثاق شرف الالتزام بمحاربة الفساد ونظافة اليد. وفي إطار تعزيز مبادئ المساءلة والشفافية التي تعهد به الصيد، خلال جلسة منح وزرائه الجدد الثقة أمام البرلمان، والسعي إلى تركيزها ومؤسستها، أقدمت رئاسة الحكومة على نشر وثيقة ميثاق الشرف، مرفقة بتوقيعات الوزراء، تنص على أن يلتزم هؤلاء بوضع مصلحة الوطن فوق المصالح الخاصة والحزبية، وعدم تحقيق مكاسب ومنافع خاصة باستعمال صفتهم الحكومية. كما تعهد أعضاء الحكومة بتفعيل آليات الرقابة والشفافية في وزاراتهم ومناهضة البيروقراطية، والتفاعل الآني مع مشاغل المواطنين، علاوة على الالتزام بالتحفظ والتضامن الحكومي. من جانبه، أقر وزير الوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد كمال العيادي، بأن مئات الشكاوى التي تصل إليه يوميا، تعبر "عن ثقة المواطنين في أجهزة الدولة للحد من الفساد"، مشيرا إلى أن وزارته حصلت على صلاحيات واسعة لم تكن متاحة خلال الحكومات السابقة، من بينها تكوين أجهزة رقابية خاصة بها، والإشراف على قطاع التوظيف الحكومي، وهو ما سيمكنها من رسم وتنفيذ إستراتيجية وطنية جديدة لمكافحة الفساد، حسب قوله. وعن محاور الإستراتيجية قال: "هي ثلاثة، أولها نشر مبادئ الحوكمة والتصرف في المال العام، والثاني: مراجعة قانون الوظيفة العمومية وكيفية إدارة الموارد البشرية، إذ إن الأجور في القطاع الحكومي تبلغ نحو 14% من إجمالي الناتج الداخلي الخام، والمحور الثالث هو إصلاحات تشريعية بدأت الوزارة في إعدادها، على رأسها قانون جديد لحماية المبلغين عن الفساد".
معاقبة المؤسسات الفاسدة أشار العيادي إلى أن وزارته أصدرت أمرا حكوميا جديدا يقضي بمعاقبة وإقصاء المؤسسات التي يثبت تورطها في شبهات فساد، من المشاركة في الصفقات العمومية ووضعها على لوائح سوداء، منوها إلى أن الإطار التشريعي والقانوني يبقى وحده غير كاف. وتأتي هذه الإجراءات تزامنا مع نتائج مسح حديث عن مناخ الأعمال في تونس لسنة 2015، أعده المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية، وأظهرت أن ثلث المؤسسات اضطرت إلى دفع رشاوى لتسهيل معاملاتها مع الإدارات الحكومية. وأوضح المسح أن 32% من المؤسسات التي شملتها العملية تؤكد أن الجمارك هي أكثر الإدارات الحكومية فسادا في تونس، مشيرا إلى تلقي قطاع الخدمات العامة 15% من الرشاوى، وذهبت 12% إلى إتمام الصفقات الحكومية، بينما استحوذت أجهزة التفقد والمراقبة على 13% من الرشاوى، خاصة الرقابة الصحية والنظافة التي نالت وحدها 10%. ووفقا لنتائج المسح صرحت 8% من المؤسسات المعنية بأنها اضطرت خلال السنة الماضية إلى دفع رشاوى للنظام القضائي، كما لجأت 14% من المؤسسات إلى دفع رشاوى إلى إدارة الجباية. وتقدر قيمة الرشاوى المدفوعة حسب نتائج المسح، بحوالي 0.62% من رقم معاملات المؤسسات، وهو ما أرجعته الأخيرة إلى لجوئها إلى دفع رشاوى لتسريع الإجراءات وتجنب عرقلة ملفاتها وتفادي تطبيق القانون والتقليص في الرسوم المقررة. إلى ذلك، أشارت منظمة الشفافية العالمية، أخيرا، إلى ترتيب تونس في مؤشر الفساد في القطاع العام من المرتبة ال75 إلى المرتبة ال77، حسب ما أعلنته "جمعية أنا يقظ"، باعتبارها الممثل الرسمي في تونس، وعللت الجمعية هذا التراجع بالإشارة إلى "بطء التشريعات المتعلقة بالعدالة الانتقالية وبإستراتيجية مكافحة الفساد وعدم وضوح الأفق السياسي.
بوابة إلكترونية تحاول الحكومة التصدي لظاهرة استفحال الرشوة في المؤسسات الحكومية عبر تخصيص موقع إلكتروني خاص للتبليغ عن المخالفين وتقديم الشكاوى وإشراك المواطن في تنفيذ مشروع "المنظومة الإلكترونية للشكاوى والإبلاغ عن حالات الفساد"، وذلك بالتعاون مع دولة كوريا الجنوبية. وانطلقت البوابة الإلكترونية المخصصة للتبليغ عن حالات الفساد في العمل فعليا، بعد فترة تجريبية دامت أسابيع، سجلت خلالها وزارة الوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد 80 ألف حالة. وفي هذا الصدد، كشف وزير الحوكمة ومقاومة الفساد، كمال العيادين في تصريحات إعلامية، أن 80 ألف بلاغ عن حالات فساد وردت للبوابة الإلكترونية التي وضعت في الخدمة خلال الفترة الأخيرة، لافتا إلى أن 70 مؤسسة حكومية تم ربطها بالشبكة الإلكترونية في إطار العمل على تطبيق هذه المنظومة. وشهدت البوابة العديد من البلاغات عن الشكاوى المتعلقة بالرشوة، أو تحقيق فائدة بغير موجب بأية صفة كانت، أو الامتناع عن تأدية العمل المطلوب، وعدم الالتزام بالتعليمات لتحقيق منفعة شخصية أو لفائدة الغير أو المحسوبية أو منح امتيازات وظيفية أو التمييز بين الأعوان بغير حق، كذلك الوساطة وعدم احترام قواعد المنافسة فيما يتعلق بالصفقات العمومية وطلبات العروض، أو اختلاس الأموال العمومية، أو استغلال أملاك الدولة للحساب الخاص، أو جمع المساعدات العمومية دون ترخيص رسمي. كما تضمنت البلاغات التزوير وتدليس الوثائق الإدارية الرسمية واستعمال الأختام العمومية بطرق غير قانونية وخيانة المؤتمن.
مطالبات برلمانية دعا نواب بالبرلمان التونسي إلى كشف ملفات تحوم حولها الشكوك، مطالبين الحكومة بالضرب بحزم على أيدي الفاسدين، مشددين على ضرورة الحصول المسبق على موافقة اللجنة العليا للصفقات العمومية في مختلف المناقصات التي تقوم بها الدولة. وتحدثت لجنة مقاومة الفساد والرشوة عن شبهات من هذا النوع في جل المعاملات التي أنجزتها الشركة الأميركية في تونس خلال نشرة أصدرتها في هذا الغرض، مما زاد من شكوك نواب البرلمان حول شبهة الفساد التي تلف هذه الصفقة، داعين إلى عرض هذه المشاريع على اللجان المختصة داخل البرلمان التونسي. وأعلنت "جنرال إلكتريك" في فبراير الماضي الانتهاء من إنجاز تركيز وحدتين لإنتاج الطاقة، وهو ما سيمكن من توفير الكهرباء لنحو 1.2 مليون عائلة تونسية وتفادي انقطاع الكهرباء في فترات الذروة صيفا. وقالت الشركة إنها ستوفر كل التجهيزات والخدمات والأجهزة من أجل مساعدة البلاد على تفادي انقطاع الكهرباء في الصيف، كما ستحصل الشركة على عقدين للخدمات التعاقدية لمدة سنتين في إطار هذا المشروع، يليهما عقد إضافي للخدمات ذاتها مدته 10 سنوات. في السياق ذاته، طالب النائب بالبرلمان التونسي، الصحبي بن فرج، وزارة الصناعة والطاقة بالكشف عن حقيقة الصفقة التي حصلت عليها الشركة الأميركية لإجراء توسعات في محطة لتوليد الكهرباء بمحافظة قابس جنوب شرق البلاد. وهدد فرج بأنه سيقدم ملفا لهيئة مكافحة الفساد التي يترأسها العميد السابق للمحامين شوقي الطبيب، بسبب وجود شبهات مالية في الصفقة، مشيرا إلى أن الشركة الأميركية حصلت على صفقة لإنجاز مشروع توسعة في محطة توليد الكهرباء بسرعة قياسية ودون المرور على لجنة المناقصات العمومية، وفق ما ينص عليه القانون التونسي. وقال فرج: "تحصلت الشركة الأميركية على صفقة إنجاز المشروع الذي تقدر قيمته ب160 مليون دولار بعقد مباشر ودون الإعلان على طلب عروض دولي، وهو ما يشير إلى إمكانية وجود شبهات فساد وراءها". وأضاف: "وزير الطاقة أكد في رده على ما أشرت إليه من شكوك حول صبغة الصفقة، والمعطيات المشكوك في صحتها الواردة في الدراسة التقديرية التي قدمت لتبرير الصفقة واللجوء إلى تعاقد مباشرة مع شركة جنرال إلكتريك، وحول ضرورة تفادي مثل هذا النوع من الصفقات، أي بتكلفة مضافة بما يقارب 20%من قيمة الصفقة، مما يتراوح بين 60 و80 مليارا إضافية".