احتفى كتاب الاعتبار بكثير من النماذج للمرأة الصليبية، وقد أظهرتها بصورتيها السلبية والإيجابية، مما يعني أنه لم ينل من مكانتها دائما، أو يتعالى عليها، أو ينظر إليها باحتقار، بل أبرزها على حقيقتها كما شاهدها، أو تناهى إلى مسامعه من أخبارها. فصور شجاعتها وجرأتها، ومما رواه عن الصليحب، يقول: "وكان في أمراء مصر رجل يقال له الصليحي، في وجهه ضربتان: الواحدة من حاجبه الأيمن إلى حد شعر رأسه، فسألته عنهما، فقال: كنت أنهض وأنا شاب من عسقلان، وأنا راجل فنهضت يوما إلى طريق بيت المقدس أريد حُجاج الإفرنج، فصادفنا قوما منهم، فلقيت رجلا معه قظارية "حربة" وخلفه امرأته معها كوز خشب فيه ماء فطعنني الرجل هذه الطعنة الواحدة، وضربته فقتلته، فمشيت إلي امرأته وضربتني بالكوز الخشب في وجهي، جرحتني هذا الجرح الآخر، فوسما وجهي". ولا شك في أن هذه الرواية التي قدمها لنا ابن منقذ في كتابه، تبرز ما كانت تتمتع به المرأة الإفرنجية من إقدام، فلا تخش شجاعة الفرسان وشدة بأسهم، تدافع عن نفسها وتثأر لزوجها ساعة الشدة، وفي مقابل هذه الصورة بكل إيجابياتها ودلالاتها، نجد في كتابه صورة المرأة الشيطانة، كما يقول في قصة بريكة، إذ يروى ما شوهد منها، قائلا: ".. وكانت هذه الأمة ولا اسمه رجل كبير و"كان" وكيلا في ضيعة الوالد –رحمه الله- هو ورجل يقال له: بغية بن الأصغر، حدثني قال: "دخلت في الليل إلى البلد أريد الدخول إلى داري في شغل لي، فلما دنوت من البلد، رأيت بين المقابر في ضوء القمر شخصا ما هو آدمي ولا هو وحش، فوقفت عنه وتهيبته، ثم قلت في نفسي "ما أنا بقية! ما هذا الخوف من واحد؟" فوضعت سيفي ودرقتي "ترسي" والحربة التي معي ومشيت قليلا قليلا، وأنا أسمع لذلك الشخص زجلا وصوتا، فلما قربت منه وثبت عليه وفي يدي دشتي "الحربة" فقبضته، وإذا بها بريكة مكشوفة الرأس، قد نفشت شعرها وهي راكبة قصبة، تصهل بين المقابر وتجول، فقلت "ويحك" أي شيء تعملين في هذا الوقت ها هنا؟ قالت "أشجر"، قلت: "قبحك الله، وقبح سحرك وصنعتك من بين الصنائع". تكشف الصورتان المتقدمتان والمتناقضتان عن حال المرأة الإفرنجية إبان الحروب الصليبية التي عاشها ابن منقذ، وقد جلتا ابن منقذ من المرأة آنذاك، دون مواربة أوخجل، وكأنه يريد أن يربط بين ما يبدو شجاعة، وبين ذهاب العقل، فهو بذلك يقدم لنا نماذج يندر أن نطلع عليها في غير كتابه في تلك الحقبة، من التاريخ، كما بينه على المهاد الاجتماعي الذي عاشت فيه المرأة الإفرنجية في ذلك الزمن.