"آل خلف".. هذا الاسم له وقعه الرنان في أذني، عندما أسمعه أشعر بمعزوفة موسيقية تفوق إحدى سيمفونيات بيتهوفن.. لا أعلم ما الشعور الذي ينتابني!! العزة! الفخر! الحنين! عشق الثرى! في النهاية أصل إلى جواب واحد: أن هذه القرية جمعت كل هذا لتكون أسطورة رسمتها بمخيلتي منذ الصغر، ولتكون قصة حب هذه القرية العريقة مزروعة بداخلي، سقاها والدي بقصصه ورواياته عن هذه القرية الجميلة، ولم أجد ما يوازي جمالها ورائحة المطر تغازل ذرات ترابها. وقفت على نهر "التايمز" في لندن وتجولت في "الشانزلزيه" في باريس، وزرت أماكن عدة.. عذرا كل هذا لا أراه يفوق جمال قريتي.. لم أجد هناك رائحة الخزامي ممزوجة بالريحان تحملها نسمة هواء لتعطر الأزقة.. في باريس وجدت أكبر دور للعطور الفاخرة والتي ما إن تخطو خطوات قليلة حتى تختلط بها رائحة الخمور التي تعج من البارات.. هناك أشم رائحة الحطب ولكنها ممزوجة برائحة شواء لحم الخنزير فتتحول إلى رائحة نتنة.. أما في قريتي فتشم رائحة الحطب ممزوجة برائحة الخبز الشهي.. في قريتي أصوات المآذن تملأ المكان وتبعث في النفس الطمأنينة والروحانية.. في ضواحي بريطانيا لا يكاد يخلو شارع من شجرة التفاح اللذيذة، ولكن يصعب عليك قطف تفاحة واحدة خوفا من نظامهم الذي يمنع قطف التفاح، أما في قريتي فأشجار الخوخ والتين متناثرة بين المزارع والكل يستطيع قطفها، حتى العصافير، فأشجارها تعد صدقة جارية لكل مخلوق. قريتي جمعت الجمال والمعمار الهندسي المتقن والأزقة الآمنة.. جمعت البطولة والشجاعة والعلم والكرم والعزة. رجالها يشار إليهم بالبنان وتضرب بهم الأمثال.. جمعوا الرجولة والحكمة والأصالة، وعقولا تميزهم عن الآخرين.. لا يكادون يخطون خطوة إلا بتدبير مسبق، يستثنون من ذلك مواقف "الفزعات" لأنك تجدهم في لمح البصر. نساؤها لا يختلفون في حزمهم عن الرجال، لكن يغلب عليهن الطابع الأنثوي.. جمالهن ساحر، ويزداد كل ما تقدم بهن العمر، وبيوتهن يحولنها إلى تحفة فنية غاية في الأناقة والذوق.. يجمعن الأدب والعقل والرزانة والعلم، ويحملن طابع فتيات القرية ذوات القلوب النقية.. وأطفالها مزيج من المرح والجمال والبراءة التي يفتقدها أطفال هذا العصر. ولكن كل ذلك اليوم؛ بدأ ينهار في قريتي.. هذه هي القرية التي عرفتها في الماضي، فماذا بقي منها الآن؟ أهلها ودعوا القناعة، وفارقوا الوداعة، وبعضهم هجرها إلى المدينة. استبدلوا ماديتها بروحانيتهم، وقلقها المزمن بطمأنينتهم، وبعضهم مكثوا فيها وتقاعسوا عن خدمتها، وأرادوا أن يجعلوها مدينة مصغرة، فأحالوا ترابها قارا، وخضرتها أحجارا، وجعلوا بينهم وبين الطبيعة ستارا، فتسمم هواؤها وغاض ماؤها. لقد تهالكت قلاعها -رمز بطولاتها- وتكاد تسقط لولا البقية الباقية التي آلت على نفسها أن تحميها، فهل تراها تستطيع؟ بوفاة والدي بدأت قريتي بالانهيار بالنسبة لي، فلقد كان يروي عشقي لقريتي برواياته عنها، ويحكي لي قصص بطولاتها، ويردد على مسامعي أهازيجها بألحان مختلفة. رسمها في عيني بأجمل صورة. وعند وفاته نبض نهر المعلومات التي كنت أنهل منه تاريخ قريتي، وبعده رأيت الكثير من كبار القرية، رجالا ونساء، تأخذهم المنية ويذبل مع رحيلهم جمال القرية، من قصص وقصائد وروايات. حزنت عندما رأيت المقابر تستضيف كل يوم ضيفا جديدا من قريتي، ماتوا وقد خلفوا وراءهم قرية وضعت بصمتها في كل مجال، وذاع صيتها حتى وصل إلى العنان. سأورث حب هذا المكان الذي سكن بين أضلعي لأبنائي بإذن الله.. وسأظل أحكي روايات وقصائد أبي للأجيال القادمة، لتبقى هذه القرية جميلة كما عهدتها، وستبقى كذلك في عيون الأحفاد كما رسمها الأجداد.