لا خير في مدن لا تعرف كيف تحتفي بأمطارها، هكذا كانت أحاديث الغيمة للغيمة، هناك كانت نشرات الطقس على أشدها في قراءة التوقعات المستقبلية للأيام القادمة، وهناك اكتسى قارئو برامج الطقس والمناخ شهرة وحضورا منقطع النظير في مواقع التواصل الاجتماعي، وبإذن الرحمن المغيث حانت ساعة قدوم الضيف الذي قدر له أن يكون بمثابة "نزاهة" مهابة ورعبا ومكانة، واصطفت الغيوم مغلقة السماء والأفق لينهمر الماء إلى ميعاده المرتقب مع الأرض والعباد، بدقائق مروره الأولى كان الغرق والتحذيرات والتبريرات وتقاذف المسؤوليات وانعقاد اللجان وتحميل المطر جزءا من المسؤولية أحيانا، ولن استبعد محاكمته بتهمة "غزارته"! أخبرتني إحدى المدن المشاغبة أنها لولا الخجل لرفعت رداءها عن طرقاتها وميادينها وأرصفتها وغادرت حفظا لماء وجهها المُراق عبثا بلا ضمير، ولأن أسئلتنا الملحة المتكررة في مواسم الشتاء والمطر لم يشبع غرورها لمعرفة السر الكامن خلف عجزنا عن إيجاد الحلول لوقف مسلسل الغرق، لم أجد بدا من مناقشة قطرة مطر وعقد اجتماع مغلق معها لأعتذر لها نيابة عن المقصرين. جلسنا معا، كان اللقاء محموما باللهفة، تقول بعد أن جلستُ إلى جانبها على النافذة نرى مدينتنا الصغيرة السابحة في الوحل والطين. لماذا جعلتموني أيها البشر نقمة لا نعمة من خالق هذا الكون العظيم، لا أريد أن يموت طفل بسببي في سيارة بنفق، لماذا تغلق مدارسكم أبوابها أمام الطلاب، أختنق حقا لرؤية المدن وهي تطفو مختنقة لافظة مياه الأمطار، أتعلم أيها المتسائل تخبرني غيمة ماطرة في دولة فقيرة بأنها سعيدة بانهمارها وغزارتها، يبتهج لتشكلها الأطفال، يخرجون فرحين هانئين آمنين فرحين، يذهبُ العمال إلى مصانعهم، تُغسل الأرصفة وتزهر ألوان البنايات وتحتفل الطبيعة، وتغني الطيور أناشيد المطر، تقول تلك القطرة المنكسرة: لماذا أشعر بأنني عبء لا يطاق لمدنكم؟! لماذا لا أجد الحفاوة اللازمة لإيصالي إلى الأرض لأستقر من جديد كمياه جوفية أو أتبخر من جديد إلى السماء لتكتمل دورة وجودي؟. قلت لها مازحا لا تقلقي، سنناضل من أجل صناعة سيارة برمائية قادرة على التعامل مع كل حالات الغرق، وسنبتهج بعد مئة قرن، ربما رأيت ابتسامتها وقلت، فقط ليرحل مثلث الفساد والبيروقراطية وكهفنة المناصب لمن لا يستحقونها، وأعدك بأنك ستجدين كل الحفاوة التي تحلمين بها، والآن اصعدي فقط أيتها القطرة الطاهرة دمعة إلى عيني، كي أذرفها على حال مدينتي مع المطر.