هو "منبر للتعريف بتراث المملكة وآثارها" تلخيص عميق، يختصر أيما كتابة، تحاول أن تقترب منه، لتنهال من كتفيه مفازات من غبار علق بكل شبر من جسده، وهو يخوض غمار صحارى وجبال وسهول الجزيرة العربية من أقصاها لأقصاها، على مدى أكثر من أربعة عقود لكي يفهم ما تخزنه بطون تلك الأودية والمفازات من إشارات لماض سحيق، عاشته هذه الفيافي عبر التاريخ البشري. حين يصف مدير جامعة الملك سعود الدكتور بدران عبدالرحمن العمر رجلا بهذا التوصيف فهو مؤكد يشير إلى المؤسس الأول لعلم الآثار وتنقيب الأرض في المملكة، الأكاديمي المؤثر وغير الخامل الذي وضع مسارا لدراسة الآثار في قسم التاريخ بجامعة الملك سعود. عبدالرحمن محمد الطيب الأنصاري الذي على الأرجح أن الموقع الأثري المشهور "قرية الفاو" جنوب الجزيرة العربية كان رافعة الضوء الأولى التي قدمته للناس قبل أكثر من ثلاثة عقود، حين أشرف على أعمال التنقيب فيه لأكثر من عقدين. أتم الأنصاري المولود في المدينةالمنورة عام 1935 دراسته من المرحلة الابتدائية حتى الثانوية في طيبة إلى جوار مسجد رسول الله، حيث والده العلامة محمد الطيب، أحد أيقونات حلقات الدرس في المسجد النبوي، ما يوضح الأفق العلمي الذي تدرجت فيه حياته الأساسية، قبل أن يحصل على شهادة الليسانس في اللغة العربية والأدب من جامعة القاهرة عام 1960 ثم يبتعث إلى المملكة المتحدة، لينال الدكتوراه في جامعة ليدز عام 1966، عن دراسة مقارنة لأسماء الأعلام اللحيانية وتدريب على أعمال التنقيب الأثري مع المشرف على رسالته الأستاذ في جامعة دورهام، كما شارك في أعمال التنقيب بالقدس عام 1966 مع البروفيسورة كاثلين كينيون، ما أهله أيضا لنشر عشرات الدراسات المتخصصة في علم الآثار. الأنصاري الذي بات اسمه هو والدكتور عبدالله المصري، مرتبطين بالآثار في السعودية، فلا تذكر دون الإشارة إليهما، أعادته مبادرة رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار بإعلان جائزة تكريمية للباحثين في مجال الآثار تحمل اسم الدكتور عبدالرحمن الأنصاري، إلى دائرة الأضواء، ومقدمة الأخبار مجددا، على نحو يذكر المتابعين بكيف ضجت وسائل الإعلام السعودية أواخر الثمانينات، بأخبار اكتشافه قرية الفاو التي قلبت موازين قراءة تاريخ الشرق الأوسط برمته، انطلاقا من الجزيرة العربية، وخضت الذاكرة البرية لإنسان الشرق القديم. هو ما دونه الأنصاري في كتابه المرجع "قرية الفاو: صورة للحضارة العربية قبل الإسلام" الذي استعرض فيه نتائج المواسم الستة الأولى من التنقيب الأثري في ذلك الموقع الأثري المهم الذي عرف بأنه عاصمة مملكة كندة الأولى، منذ القرن الرابع قبل الميلاد وحتى القرن الرابع للميلاد قبل أن يغادروها ويتخذوا من نجد مركزا لحكمهم. هناك جنوبا من نجد على بعد محافظة السليل بحوالي 100 كلم، وبالتحديد في المنطقة التي يتقاطع فيها وادي الدواسر مع جبال طويق عند فوهة مجرى قناة تسمى "الفاو" التي استمدت القرية اسمها الحديث منها تعريفا وتمييزا لها عن باقي القرى المجاورة لها.. هناك صب الأنصاري عصارة مهنيته وأكاديميته، ليكتشف قرية تشرف على مهابة التاريخ، وهي قابعة بجلال تحت رمال الحافة الشمالية الغربية للربع الخالي في المملكة العربية السعودية، على بعد قرابة 300 كلم عن نجران، أرض الأخدود التاريخية الأخرى، فامتلأ إحساسا بالتاريخ، وسجل أجمل كشوفه، ما يجعله جديرا بتخليد اسمه عبر جائزة ستعمل على تنشيط الدراسات في علم الآثار، وتحفز الباحثين على تكثيف جهود الاستكشاف والتنقيب لاستظهار كنوز الوطن وتراثه الدفين، والتأكيد علميا على أنه موطن لحضارات قديمة، ومالك لذاكرة مضيئة في قاع التاريخ، يمكنه أن يعاود انطلاقه من إزاحة غبار السنين المتراكم. كان الأنصاري واحدا من أجمل من كشطوا غبار الذاكرة عن الصحراء العربية لتعبر عن كبرياء حقيقي مدفون.