يشيع في بعض الدول اليوم استخدام كُتيّبات لطباعة الإنتاج الأدبي. ويأتي هذا الشيوع استجابة لعدد من العوامل، أبرزها صعوبة النشر وانخفاض كلفة إنتاج الكتيّب. والكتيّبات التي أتحدث عنها عبارة عن كراريس، لا يتجاوز عدد صفحاتها في الغالب أربعين صفحة. وهي ليست تقليدا جديدا في عالم النشر، بل طالما استُخدمت في أماكن متفرقة من العالم، وإنْ كانت إنجلترا قد شهدت في بداية العصر الحديث ثورة غير مسبوقة في انتشار الكراريس والكتيبات التي يمكن القول إن ثقافتها ازدهرت تحديدا في القرن السادس عشر، حيث ساعد على رواجها باعة متجولون، يبيعون ما تضمّه من قصص الشهامة، ومنشورات التعاليم الدينية والأخلاقية، التي تلقفها الناس آنذاك بحماس كبير. غير ذلك، تراوحت طبيعة الأعمال الصادرة في كراريس ما بين المواضيع اليومية، كتلك المتعلقة بالدين والسياسة والوقائع التاريخية، وما بين الأدب الشعبي، كأدب الطفل والروزنامات والحكايات الشعبية والشعر والمقالات. أبرز ما يميز الكراريس أنها رخيصة الإنتاج، مقارنة بالكتب العادية، ولذلك لا تدوم طويلا بسبب نوعية الورق المستخدم في إنتاجها، كما أنها تُخاط أوراقها أو توثق بدبابيس. كما أن مؤلفيها كثيرا ما كانوا يقومون بتصميم أغلفتها الورقية وإضافة رسومات توضيحية بين ثناياها بأنفسهم. القراء، من جهتهم، لاءمت جيوبَهم الكراريسُ التي أصدرتها المطابع لكتبٍ قديمة بعد نفاد النسخ التي لا يتحمل كلفتها سوى الأثرياء. وهكذا أدى ظهور هذا النوع من الكتب إلى انتشار المطابع المحلية والمستقلة. كما ساهم في نشر الثقافة الشعبية بين كافة أوساط المجتمع، وخصوصا البعيدة عن المركز، إنْ جغرافيا كالمناطق الريفية وإن اجتماعيا كأفراد الطبقة العاملة. وعلى الرغم من أن هناك انتقادات طالتها بسبب ضعف مصداقية السردية التاريخية التي تقدمها الكراريس، كما عابت على الأسلوب الكتابي الذي يسم ما ينشر فيها، مثل الإطناب والتكرار، إلا أنها ظلت مؤشرا مهما وسجلا غنيا للثقافة الشعبية للمجتمعات التي تصدرها، مما يفسر تسابُق الجامعات ومراكز الأبحاث اليوم على اقتنائها وتوفيرها للباحثين والدارسين. اختفت منتصف القرن التاسع عشر تقريبا، بعد شيوع الصحف الرخيصة التي يمكن أن يُنشر فيها المحتوى الذي لازم الكراريس منذ انتشارها، وانتفاء الحاجة التي دعت إلى وجودها في المقام الأول. لكن منذ آخر عقدين في القرن المنصرم، ساهمت الطباعة الرقمية في إحياء ثقافة الكتيّبات أو الكراريس وإعادتها إلى المشهد من جديد. وبعودتها وجد فيها الشعراء على وجه الخصوص فرصة مناسبة لنشر قصائدهم، وعوّضهم رخصها النسبي عن صعوبة المنافسة في مجال النشر. بل إن بعض الكتّاب قام بنفسه بتنفيذ الكتيب أو الكراسة، ثم تابع بنفسه عملية بيعها في منافذ البيع التقليدية، أو عبر مواقع البيع الإلكتروني، أو حتى توزيعها على الزملاء والأصدقاء. قدمت الكراريس فرصة سانحة أمام الكتّاب للوصول إلى القراء وتعريفهم بنتاجهم الأدبي من خلال تقديم "عيّنة" منه، إضافة إلى تحصيل مردود مادي معقول بعد التخلص من أجر الدار. كما خدمت أيضا هدفا آخر، إذ استخدمها بعضهم برهانا على مقروئيته في سبيل الحصول على اهتمام دار نشر لطباعة عمله القادم. جارت دور النشر انصراف الكتّاب إلى طباعة أعمالهم في كراريس، وأنشئت بعض الدور التي تحصر نشاطها تماما في طباعة الكراريس، كما أن دور النشر المرموقة أوكلت هذه المهمة إلى فروع خاصة لطباعة الكراريس، حيث تطبع منها نسخا محدودة، وتقيم مسابقات لاستقبال مخطوطات كراريس تطبع ما يفوز منها بعد استخراج رقم ترميز دولي له. أخيرا، تكاد الكراريس تغيب عن مشهدنا العربي لأسباب لست معنيّا بحصرها الآن. ولكني متأكد بأنها –إمّا وجدت- ستخدمه كثيرا، أولا من خلال خلق فرص أمام الكتّاب في التجريب بعيدا عن أعراف صناعة الكتاب، وثانيا من خلال تصحيح الخلل الكبير الذي يسم عملية النشر، والقائم في معظمه على استغلال دار النشر للكاتب.