"عيون كثيرة تلتقي تحت ظلال الشجرة./ بريق النظرات شعلة المسافر". هذا واحد من نصوص الشاعر محمد الحرز الواردة في إصداره الأخير "أحمل مسدسي وأتبع الليل" (دار مسعى للنشر والتوزيع، البحرين - 2015) والقائمة على الاقتضاب والاختزال تتراوح سطورها بين السطر الواحد والسبعة أسطر، ترد في صورة توقيعة أو شذرة مخضبة بالشعر وملتحمة بالفكر، ملتمعة وهاجة حيث الكتابة مقطرة يستصفيها الحرز من تجربته في الحياة ومن عكوفه على درس الشعر وما خلص إليه عبر جولاته في القراءة والكتابة الفكرية، يومض بمقارباته التي تحيل إلى مرجعيات ونصوص غائبة وإلى جملة من الخبرات عرف كيف يعالجها ويستقبلها في حوضه الخاص فيكسبها امتدادا عميقا وحياة جديدة: "نحن لا نكتب قصائد جديدة./ كل ما نقوم به/ هو أننا ننفض الغبار/ عن قصائد سابقة". هذا الديْن الجمالي الذي يصرح به الكاتب ويفصح عن "الخراف الممضوغة" وكيفية تسييلها في نصه، تجعل القارئ يلتفت إلى اللقى التي ظفر بها الشاعر واستحالت مدماكا يقوم عليها نصه بكل بهاء وجمال، وبكل ما في الروح من عطب يتعذر مواراته: "أحفر عميقا في أرض أيامي،/ وعندما أصل إلى قلب الحجر،/ أسد الثلمة التي يطل منها/ الموت على نفسه". لا يأتي الشاعر من فراغ إنما من مكان مملوء يهبنا، قبل أن يهبه، تلك اللمعة وذلك التوتر على شاكلة توقفه عند الذكريات، الموضوعة التي لم يستنفدها الشعراء ولا المفكرون ولا بناة الحكايات الأسطورية. يذهب إليها الحرز بالصورة المستوعبة وبالحواس التي تحفظ، وتستدخل وتتخمر فيها الرنة الشعرية التي لا تقول وقتها غيره، الرنة المشتعلة تدوم على مدى العمر ويتحسسها مفتاح ضائع ينجم من أرض الغياب ومن ذاكرة الجسد: "بعد غياب طويل/ عاد إلى منزله./ الباب لم يتسع لدخول ذكرياته الكبيرة./ وحين قص الزوائد منها،/ ظل صوت المقص/ يطارد ما تبقى منها/ في حياته".. "الجسد لا يملك مفتاح ذاكرته./ تاريخ اللمسات هو مفتاحه الضائع". ويخصص محمد الحرز جزءا وازنا من الكتاب لتأمل العملية الإبداعية في صياغة شعرية. يمارس الكتابة حول الكتابة وينظر في عالمها بطريقة جمالية هي النص المكتوب بشرط الشعر وفي الوقت نفسه يحضن هذا النص العين السابرة التي تنصرف إلى العالم الداخلي الزاخر بإرهاصات النص وميلاده ونشأته وما يحفل به من رؤى ومواقف حيال الكتابة نفسها بمعنى أن "الشعر يفكر" بتعبير كريستيان دوميه في "جنوح الفلاسفة الشعري" وأنه يولي "انتباها إلى نفسه" حيث النظرة والإصغاء يتحولان من الخارج، بانعطافة إلى الداخل، عالم النص، المختبر الشعري وأدواته. أي أن النص يصبح مرآة تعكس صورة الناظر فيه، بحسب محمد الغزي في "وجوه النرجس.. مرايا الماء - دراسة في الخطاب الواصف في الشعر العربي الحديث" وهو هنا الشاعر إذ يسخر كامل انتباهه ومعه جسده لحركة النص، يعاين بشغف ونشوة، وبألم يخض كيانه ووجوده تلك الكلمات التي تطفر من المجهول إنما الموشوم بأكثر من حياة يسعى أن يتعرفها في ومضات لا تكاد تتوضح. ذلك أن الشاعر يقيم عند التخوم التي تراوغ وتتغير منازلها. هي الحدود الزلقة التي تبقي جذوته، تخرق اليد وتحرقها وهو بعد في أول الحرف يظل منتظرا متقلقلا، أيصيب رشقة من ماء النبع أم يشخر الهواء أمام وجهه؟.. يمسد جناحه ريشة ريشة ويبتهل إلى المخيلة أن تأخذه إلى حلم الطير أو تسقطه طريدة يرسف وحده في التخلي إلا من ذهب تجربته يشع: "ليس الشاعر سوى صياد إشارات/ الوجود مخبأها الدائم./ وما عليه إلا أن يطلق سهام كلماته مثل طعم،/ ثم ينتظر". "إلى النبع يمضي الشاعر./ لا غيمة تعرشه/ ولا جهة تحميه من التيه./ عيناه قنديلان لا يرشح الضوء منهما./ لا أحد ينقذه هذا الذاهب إلى حتفه". "أحمل مسدسي وأتبع الليل" تجربة مكينة في حقل الشعر، بأدوات مصقولة بحدوس الشاعر وبنظرة معرفية. كأنما هي الخلاصة والبلورة لكاتب "غرز شوكة الكلام في فمه" وتركها هناك تصنع الندبة التي لن يغفل عنها قراؤه.