الشاعر إبراهيم زولي الذي كان طالبا بجامعة أم القرى إبان تلك الحقبة، قال ل"الوطن": كنت واحدا الذين حضروا مناقشة رسالة الناقد سعيد السريحي. كانت ليلة من ليالي رمضان المبارك، في جامعة أم القرى المكان الذي لا يبعد عن بيت الله الحرام سوى كيلومترات عدّة. أجواء نالت شرف الزمان والمكان، وكان حريّا أن ينأى الإنسان عن كل ضغينة، ويطرح عن نفسه الحقد وسوء النية. التقيت السريحي قبلها بليال عدّة في الحرم الجامعي وأخبرني أن موعد مناقشته حدد، ذهبت وثلة من محبيه حيث كان اسمه مطروحا بقوة آنذاك. وحضوره الثقافي لا يتغافل عنه إلا جاهل أو مكابر. المناقشون الثلاثة هم: مصطفى عبدالواحد، ومحمد مصطفى هدارة، وحسن باجودة مشرفا . كان صاحب "الكتابة خارج الأقواس" سيد المنبر بامتياز. تمكن بخلفيته العميقة في التراث والحداثة أن يدهش محاوريه، حتى الجمهور ظل ينصت لحديثه الباذخ الفتنة بإعجاب. استطاع أن يجيب عن أسئلتهم التي كانت لا تصطاد في الماء العكر، بل تعكّر الماء لتصطاد فيه، تلك الأسئلة التي سعت دون أن يرف لها جفن في نصب شراك الوقيعة بالطالب وبالرسالة، كما لاحظ ذلك الكثير من الحضور. أذكر من ذلك أن واحدا من مناقشيه قال له: كيف تستعين بالناقدة سيزا قاسم في مصادرك وهي مسيحية ونحن في مكةالمكرمة، فما كان من السريحي إلا أن رد عليه بكل ثقة واعتزاز: أنا مسلم في مكة ومسلم في نيويورك، ما أذهل بفطنته وسرعة بديهته كل من في القاعة ليلة ذاك، وللحقيقة أن أحدا لم يصفق حينئذ، لا لشيء إلا لأن التصفيق كان ممنوعا في أروقة الجامعة. ولك أن تتصور أي مناخ مفخخ بالغمز واللمز والإقصاء كان يسود هذه المناقشة. في نهاية الأمر وعلى مرأى ومسمع منح السريحى الدرجة بتقدير عال، غير أن ما حدث عقب ذلك من سحب للدكتوراه كان ضربا تحت الحزام، وبعيدا عن كل الأعراف العلمية والمهنية. تخلت الجامعة بهذه السابقة عن دورها التنويري لصالح فئة وتيار متشدد. كل ما سبق كان مشهدا من بانوراما كبيرة ومنظومة امتدت حتى نادي مكة الأدبي، الذي لم يستضف شاعرا يسكن غير بعيد منه اسمه محمد الثبيتي ليس هذا فحسب بل لم توجه له حتى دعوة لحضور أمسياته كواحد من عشرات الناس المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي. أزعم أن هكذا مراجعة ومساءلة فكرية لفترة دقيقة من تاريخنا الثقافي فيها عبرة ودروس للأجيال القادمة ذلك أن الجروح يطهّرها الكي، وحتى لا تتناسل هذه الجماعات الراديكالية، وتعيد إنتاج أدبياتها، ورؤاها المتطرفة تارة أخرى.