لم يدر بخلد السيدة العجوز "أم الخير" أن أعمال هندسة "جسر الجمرات" ستقودها إلى تحقيق رحلة العمر، ورؤية المشاعر المقدسة، ففي مدينة بورسعيد المصرية كانت "أم الخير" تتخيل وهي في شبابها أنها في الحج، مع كل موسم، فالحاجة لم تمكنها من أداء الحج، وهي أم لطفلين هما "علاء ووليد". ولم تكن تعلم أم الخير أن علاء ووليد سيقودهما القدر بعدما يكبران ويصبحان فنيي هندسة، إلى العمل مع إحدى شركات بناء جسر الجمرات، ويجمعان المال الذي سيحقق حلم أمهما، ولكن الأيام مرت وفقا لحديث المسنة "أم الخير"، وكبر علاء ووليد، وساقهما القدر للعمل في مشروع جسر الجمرات لمدة 7 سنوات، وكان حلمهما الأكبر طوال السنوات الماضية ادخار المال، ليس من أجل تأثيث عش الزوجية، أو بناء منزل جديد لهما في محافظة بورسعيد المصرية، الشهيرة بصيد الأسماك، بل كان حلمهما مرحلا من أجل والدتهما التي بلغت من العمر عتيا، وتجاوزت ال65 عاما، وكانت تمني نفسها منذ عقود طويلة - =بعد أن فقدت رفيق دربها "أبو العيال" قبل 30 عاما- بالتلبية بين المشاعر المقدسة، والوقوف مع جموع الحجيج على صعيد المشاعر الطاهرة. اليوم تحقق حلم الحاجة "أم الخير"، فها هي ترمي حصواتها عند جمرة العقبة الكبرى، وفي المكان ذاته الذي أسهم ابناها في تطويره، دموعها تسبق حديثها حتى إنك لا تكاد تأخذ من كلامها سوى العبرات وتحقيق أمنية حياتها الأولى والأخيرة، فعلاء ووليد لم يحققا فقط حلم والدتهما المسنة التي كانت تحلم في منامها ويقظتها بالبقاع المقدسة، وتستملك "أم الخير" نفسها عند مفصل تؤكد فيه ل"الوطن"، أنها تفخر بأن تكون أم من حقق أمنية لقاء البيت العتيق. لم يعود علاء ووليد للمحروسة، إلا من أجل إسعاد والدتهما بشعيرة حجها، وهي التي ظلت أكثر من ثلاثة عقود بعد رحيل رفيق دربها، دون زواج من أجلهما، وظلت على رعايتهما حتى طوال تلك المدة "احتساباً" ورؤية لهما لتحقيق رغباتهما في الحياة، إلا أنهما تخليا عما يرغبون به من "أجلها". هنا تصمت "أم الخير" برهة من الزمن، لتفصح عما يختلج بين جنبات صدرها وهي تهمس لنفسها بعبارات "لن يضيعهما الله وسيحقق المولى حلمها كما حققا أمنيتي، فهذا حالي مع دعاء رب السموات خاصة في يوم الحج الأكبر في عرفة". الملفت في أمر الوالدة أن التحاق ابنيها كان من دون سابق موعد أو حتى تخطيط، لتأتي الوظيفة إليهما سوقاً، وإذ بهما بعيد تخرجهما تقدما بطلب عمل في إحدى قطاعات مشاريع المقاولات الشهيرة، المعنية بتطوير جسر الجمرات، ولم تتوقع هي ولا حتى وليد أو علاء، أن مسيرتهم مع العمل الجديد، ليست إلا مسار امتد طوال تلك السنين لتعبيد حجة الوالدة في الموسم الحالي. "أم الخير" وطأت بأقدامها اليوم، وجذرت وقوفها في المكان الذي أسهم ولداها في تشييده، فنظرته إلى فسحة المكان وأعمدته ومناخه، ليس كنظرة أي من الحجاج، وتتحسس من خلاله نعمة من سهرت على تربيتهما، وهي تردد "احفظ بلاد الحرمين واشمل علاء ووليد بحفظهما".