على الرغم من الجهود الحثيثة التي تبذلها وزارة الداخلية في إعادة معتنقي الفكر الضال إلى جادة الصواب وإقامتها لعدد من البرامج التوعوية داخل مقرات السجون إلا أن البعض منهم استغل الثقة التي منحت له بعدما تظاهر بالصلاح والاستقامة ووعوده بعدم الانجراف خلف تيارات القتل والتكفير وعاد إلى مواطن القتال والصراع وفي أقرب فرصة يجدها للعودة إلى بلاده يعود مفخخا لقتل الأبرياء وانتهاك حرمة المكان والزمان. حادثة منفذ الوديعة أو ما عرفت إعلاميا بحادثة شرورة، أغلب أدوات تنفيذها كانوا من خريجي لجان المناصحة بعد أن تم ضبطهم في أوقات سابقة مشاركين في أعمال إرهابية واعتناق الأفكار الضالة وتمت مناصحتهم وأبدوا قبولا واقتناعا وعند خروجهم عادوا لذات الطريق ليجدوا أنفسهم في طريق الهلاك بعد مغامرة شرورة الفاشلة بجميع أدوات القياس الحربية والعسكرية. إصرار من جهته، قال مدير عام قناة العرب الإخبارية جمال خاشقجي إن المناصحة هي إحدى أدوات محاربة الإرهاب واقتلاع الفكر التطرفي ولكنها ليست هي الأداة الوحيدة، وتابع "فشل بعض الحالات لا يلغيها لأنه كانت هناك حالات أثرت فيها المناصحة بشكل إيجابي، وهناك حالات منهم أصروا واستكبروا استكبارا ولم تجد معهم فعليا واستخدموا الاقتناع الظاهري للهروب من العقاب وهذا هو التحدي الذي تواجهه لجان المناصحة فعليا". ويرى خاشقجي أن تتم إعادة تقييم برنامج المناصحة لأن خطأ واحدا قد يكون مدمرا، فكما هو معروف أن تنظيم القاعدة لم ينجح بالقوة والعتاد وإنما بفردين أو ثلاثة قد ينفذون مخططا لأن الإرهاب لا يحتاج إلى جيش. وحول من استغلوا البرنامج بالتظاهر بالتوبة والعودة فهم لم يكونوا صادقين وأعدادهم ليست قليلة، ومثالهم منفذو حادثة شرورة فمعظمهم إن لم يكونوا كلهم، قد مروا على المناصحة بشكل أو بآخر. مدرسة واحدة وطالب خاشقجي قبل أن نهتم بتوعية الخارجين بأن نهتم نحن كمجتمع بطريقة تفكيرنا، والمسؤولون عليهم الاهتمام بالمناهج الدراسية ومنابر المساجد لأننا نرفض حالة مجتمعية ولا نعترف بها وهي التشدد والغلو وهي موجودة بشكل كبير بيننا، وما يفرق بين الغلاة المتعايشين معنا وبين الداعشيين والقاعديين هو حمل السلاح، فتجد الغلاة يؤمنون بأغلب أفكار القاعدة والداعشيين إلا أنهم يختلفون معهم بعدم جواز حمل السلاح، وإن صح التعبير فأقول "إن بيننا أفكارا داعشية.. وداعش هي وجه آخر للقاعدة، كما هي وجه آخر لبوكو حرام، كلها تنظيمات يجمعها شعار التطرف والغلو لأن المدرسة واحدة". وحول متابعة خريجي سجون الإرهاب بعد خروجهم، قال "لا مانع أن تستخدم معهم التقنية.. وهي الأطواق الإلكترونية في الأيدي أو الأقدام على شكل ساعة، كما هو معمول به في أوروبا وتحدد توجهاتهم وتحركاتهم خارج السجن". تصيد وأكد أن هناك أشخاصا ما زالوا يتصيدون الشباب بعد خروجهم من السجن لإعادتهم لطريق التفجير والإرهاب لأننا أمنيا نجحنا في تفكيك البنية التحتية لعصابات الإرهاب، وما نحتاجه هو إخراج هذا الفكر من الرؤوس لأن البنية العسكرية للقاعدة انتهت، بتوفيق الله، ثم القدرة الأمنية للمملكة". وكشف عن أن بعض الشباب تمت تغذيتهم واستعداؤهم ضد المملكة خارجيا فتجد بعضهم يغادر المملكة وهم ليسوا ضد الحكومة ولا أمنها ولكن عندما وصلوا إلى مناطق الصراع تتم تغذيتهم وتعبئتهم عكسيا ضد بلدهم فيقوم البعض منهم بإحراق هويته أمام الكاميرا أو جواز سفره ويطلقون بعض العبارات للخروج على الدولة. آثار باقية من جهته، كشف الزميل علي القاسمي الكاتب بصحيفة الحياة أن العودة لنفس الفكر دليل على أن المتطرفين نجحوا في إقناع لجان المناصحة بأنهم لن يعودوا إلى ما كانوا عليه، وبالتالي قررت اللجان الدفع بهم للمجتمع، دون أن تتأكد تماما من زوال الآثار والبقايا وتراجعهم التام عن الانحراف الفكري، وما إذا كانت هناك مؤسسات اجتماعية حاضنة لهم في ظل عدم تقبل المجتمع لهم وتخوفه منهم. وتظل عودتهم إلى ذات الطريق الذي سلكوه كتأكيد على أن ثمة أفاعي سامة تقبع خارج أسوار المناصحة لا تزال تمارس دورها في استقبال المفرج عنهم وتمارس معهم دور الماسح الفظيع لكل ما تقوم به لجان المناصحة، وإن كان وصول المنحرفين إلى دائرة المناصحة ليس بالأمر السهل وكلف كثيرا من الجهد الأمني فيجب أن يكون خروجهم لمربع الأمان أكثر صعوبة وتدقيقا من عملية الدخول، فنزع خيوط الأفكار المتصلبة وعلاج التشنج العقلي يتطلبان مدة موازية للمدة التي استهلكها غسيل الأدمغة. ولجان المناصحة لا يشترط أن تستقطب من هم على كفاءة علمية شرعية عالية فقط، فلو كان المناصحون مقتنعين بهم من قبل فلن ينضموا لأي حزب أو تنظيم، بل كانوا مستشارين لما قبل التخطيط بالانحراف، ولكي تكون المخرجات على قدر معتدل من التفاؤل فلا بد أن تكون تشكيلة أعضاء لجان المناصحة خليطا بين العلم الشرعي والتفكير المنطقي والإقناع الذهني والإرشاد النفسي، لأن مسألة الإقناع لهؤلاء لن تكون منحصرة في جانب شرعي فقط، فهم مصابون بكثير من حالات الازدواج والقلق والاكتئاب والتوهان الشخصي. تأجيل "الثقة" وأضاف: ما أنا مصر عليه هو خطأ الإسراع في منح الثقة، وأؤكد أن زمن المناصحة والمتابعة الأمنية يجب أن لا يقل عن زمن الملاحقة والمطاردة الأمنية، الثقة ليست بالأمر السهل ولا تمنح لمجرد سلوكيات ظاهرة، فذات السلوكيات هي التي عبرت بهم لسنوات طويلة وقدمتهم بيننا كنماذج تقود ولا تقاد وتساند، لا تطعن وتفجر، ولو أنا أجلنا الثقة قليلا لأمكن توحيد الجهود الأمنية في مهمات أكثر تأثيرا ولما دخلنا في حيز المفاجآت وضعف المخرجات وعودة الضالين لضلالهم بعد أن توقعنا منهم توبة تجب ما قبلها، والمفصل في الأمر أن ما أسميه بالرضا عنهم والاقتناع بتراجعهم عن التطرف كان رأيا متعجلا مبنيا على سلوكيات ظاهرية لا تسمن ولا تغني من جوع في ظل أن طريق العودة ليس منثورا بالأشواك كي لا يعودوا للأحضان التي رعت وغسلت وأسهمت في الانحراف والشذوذ الفكري". وحول وجود قيادات منظرين مختفين عن نظر الدولة، قال: ربما يكون هذا سببا ثانويا لا رئيساي، المنظرون مثل امرأة لا يعنيها كيف ومِن مَن تلد أو من يكون الأب قدر ما يكون هدفها أن تملأ المساحات بالأولاد وأن تصنع طبولا صغارا قادرين على إحداث الجلبة والصراخ، المنظرون المختفون عن نظر الدولة سيكونون يوما بين يديها، ولكن هناك أيضا من يقوم بالتنظير أمامنا دون مساءلة أو محاسبة". نسب ضئيلة وعلى صعيد المتخصصين، يقول مشرف حملة السكينة لمناصحة معتنقي الفكر الضال عبر الإنترنت الشيخ عبدالمنعم المشوح إنه لا بد من أن نعرف أن أي برنامج فكري يكون فيه بعض التراجعات، وإجمالي العائدين لهذا الطريق بعد المناصحة لم يتجاوزوا ال5% وهي نسبة ضئيلة وفي حكم النادر. وأضاف: نحن في حملة السكينة لمسنا أثر برنامج المناصحة، الذي أثر في بنية خلايا التطرف؛ فالمناصحة أصبحت هاجسا مخيفا للمنظرين والقادة، وفي المقابل شجعت الأهالي والأسر على تسليم أولادهم والضغط عليهم للرجوع، كما أن المناصحة مبدأ شرعي وعقلي ومسار لا بد من اتخاذه مع أهمية التطوير والتجديد وهو ما يحدث فعلا فيما نطلع عليه من أخبار. وعن أبرز أسباب العودة لذات الطريق قال: الأسباب الرئيسية تحتاج إلى دراسة، لأن النسبة من الأساس ضئيلة جدا، وثانيا قد يكون من عاد تظاهر بالإقناع وهو لم يقتنع من الأساس، ثم إن برامج التوعية والمناصحة هي جزء من منظومة التعاطي مع التطرف، والمسؤولية يتحملها الجميع وهي تكاملية، فهذا الذي تخرج من المناصحة خرج إلى المجتمع بكل مكوناته من منزل وأسرة ومدرسة ومسجد وإعلام ووسائل تواصل.. فالمؤثرات متعددة. ومضى يقول: تركيبة الجيل الجديد الذي دخل في تنظيمات جديدة هي تركيبة غريبة، فعندما وقعت أحداث 2003 كان هؤلاء المتطرفون في سن الثمان والتسع سنوات، يعني أطفالا ولا يعرفون عن هذه الحركات أي شيء، مشيرا إلى إمكانية وجود من يعيدهم إلى الطريق السابق و70% منهم عادوا عن طريق الإنترنت لسهولة التخفي وتأثرهم نفسي وعاطفي وليس تأثرا دينيا، كما كان في السابق، ولأن شبهاتهم ليست دينية، فلذلك يصعب نقاشهم لأن القضية بالنسبة لهم فزعة لنداء وصل لهم. وكشف المشوح عن أنه تمت محاورة أعداد كبيرة عبر الإنترنت وخصوصا من معجبي داعش ووجدنا لديهم ضعفا كبيرا في الثقافة الدينية، وهم متأثرون ببعض حملات مواقع التواصل الاجتماعي وتم إدخالهم في وهم أنهم سيكونون في ظل دولة إسلامية قادمة ستحرر العالم وهذا ما كشفه لنا بعض من نجحنا في الوصول إليهم والبعض منهم كشف خطأ الطريق وعاد إلى وطنه وأهله. منصات التواصل وحول إمكانية التواصل قال: التواصل معهم ممكن ولكن نحتاج برامج قوية أكثر من الحالية، خصوصا أننا نواجه مضايقات من "تويتر" الذي قام بإغلاق بعض حساباتنا التي تستخدم في مجال المناصحة بحجة أنها حسابات تسويقية دعائية وتمت مراسلتهم عدة مرات ولكن لم يتطور الوضع عن سابقه وتم إبلاغهم بأننا جهة خيرية علمية، وهم بالمناسبة يحمون أمن أميركا ولا يهتمون بأي حملة توجه ضد المملكة. وأكد المشوح أن الإعلام التقليدي لا يجدي في الحوار مع المتطرفين لأنهم لم يعودوا يستمعون له أساسا، مؤكدا على أهمية العمل بالطرق الحديثة، وكشف أنه تم التواصل مع ما يقارب ال200 شخص من المنتمين للفكر المتطرف، ونسبة من استطعنا إعادتهم قليلة لأنهم غارقون في مثل هذا الفكر وإمكاناتنا ليست بالمستوى المطلوب. وأضاف أن حملتهم فشلت في مناصحة معتنقي الفكر المتطرف في المرة الأولى من أول يوم، وفي المرة الثانية استمرت الحملة ثلاثة أيام ثم فشلت، وفي المرة الثالثة وصلنا إلى مرحلة الأسبوعين وحققنا نتائج جيدة تصل إلى 60%. وعن أسباب الفشل قال: في المرة الأولى توقعنا أننا نحاور أشخاصا لديهم لغة تخاطب ولكن تفاجأنا بأنه ليس لديهم الحد الأدنى من المستوى العلمي، ولا يحبون سماع مصطلح حلال أو حرام أو يجوز ولا يجوز، هم ذاهبون لمصطلحات الحرية والثورة والنصرة بشكل عام، وبعضهم يقول: ذهابي بمزاجية وليس لدوافع دين أو عقيدة. وتابع: "بل إن المفارقة أن ما كان يراه بن لادن وأتباعه كفرا، كالدستور والحرية والتغيير، يراه متطرفو الجيل الحديث مطلبا يجب البحث عنه". وفي السنوات العشر الماضية كان النقاش مع بعض المتطرفين به صبغة شرعية لأن لديهم علما شرعيا وبه شبهات اختلطت عليهم، وأما الحاليون فهم بأمانة جيل فوضوي عشوائي توحشي، والضلالات عند الداعشيين أكثر منها عند أعضاء القاعدة السابقين. منهج غير واضح وأشار إلى أن من نفذوا عملية شرورة فيهم من ينتمي لداعش، وفيهم من هو من أنصار الشريعة، وفيهم منتسبون للقاعدة وهذا دليل على أنهم لا يملكون منهجية واضحة. وحول متابعتهم بعد خروجهم من السجن قال: "تعامل الدولة كان إيجابيا وتم فتح الأبواب كاملة لمن أراد العودة وهو المبدأ السليم وليس مبدأ التشكيك وسوء الظن، وما نحتاجه أن نعيد النظر في برامجنا وأن تكون على مستوى الأحداث والتهديدات، وبعضها مخططات دول يجب الحذر منها، فمثلا قبل حادثة شرورة بأسبوع كامل كان هناك تجييش في تويتر ضد محافظة شرورة". وهناك جهات في تويتر اكتشفنا أن المحرك وراءها جهات من خارج الوطن ومن قيادات في المذهب الشيعي الإيراني ويستخدمون حسابات بأسماء تعلن انتماءها لداعش، وقبل حادثة شرورة أسهمت جهات كثيرة في هاشتاق تويتري، من ضمنهم معارضو لندن وهم لا يؤمنون بداعش ولا بفكرها، ولكن لأن المصلحة توحدت وهي إحداث الفوضى داخل المملكة لذلك شاركوا جميعهم في هذه الهاشتاقات ضد شرورة، شيعيا وقاعديا، وقبل الحادثة كانوا يريدون من هو مستعد لقتل نفسه في تلك الحادثة ووجدوا المنفذين جاهزين فانطلقوا لأنهم دمى، مؤكدا أنهم عادوا إلى بيئة فكرية سيئة أعادتهم إلى نفس المنهج.