أتاني الحنين ذات يوم أن أعود، وأنا الذي احترفت البعد والترحال طلبا للعلم والعمل، أعادتني خطاي إلى قريتي الغافية فوق السحاب، وعلى قمم جبال السراة، تلك التي يلفها الضباب أغلب العام كبياض يضم العذراء. وعند الفجر أخذ الليل يلملم سواد عباءته، وأرسلت الشمس خيوط النور لتلبس التلال والكروم ثوب يوم جديد فارتجلت المسير نحو القرية العتيقة حيث تتعانق الجدران وتتجاور البيوت كما قلوب ساكنيها ممن رحلوا عن الدنيا وبقية من الأحياء. لا شيء يسمع سوى الصمت وبعض من أصوات البلابل وشقشقات الطيور. حين مشيت في طرقاتها تذكرت الطفولة وزمان الصبا.. مساريب يسكن الغبار حجارة جدرانها وتنبت الحشائش أركانها، شممت الماضي وعبقه، ودوت بأذناي أصوات الصبية وهم يمرحون ويتهادون في مساريبها يحملون البرجون وبعضا من اللوز والتين وسعادتهم تضوح براءة وبساطة. أسندت ظهري على أحد جدرانها فجال بخاطري ممشاي وجدتي خديجة -رحمها الله - تزور جاراتنا وقد كانت من يداوي ويواسي، وبحديثها وقصصها يتسامرون ويتذاكرون، وقد رسم الزمان في وجنتيها خطوطاً من تجاعيد التعب، وتجارب السنين وذكرياتِ ملؤها الأنين والألم، ومن ناهز التسعين وعاصر حكم الأتراك وزمن الفاقة والمجاعات، وفقد الأحبة بالطاعون والجوع وعاش ليحكي الحكاية ويتبرع بالنصيحة والتجربة، يستحق أن نطرق رؤوسنا حين يتحدث وأن نستلهم منه العبر والتاريخ، لم يكن ليذبل في عينيها الزرقاوين جمال السنين وصفاء العمر، ولا في قامتها الممشوقة عطاء الأيام ومحبة الناس. وحين صعدت إلى بيتنا المتهالك وصعدت العُلّيه بكيت أبي رحمه الله حين أبصرت دولابا به بضع قناني بها أدوية، كان في ليالي الحمى الباردات يرشفنا وإخوتي منها ويظل ساهرا متعبا حتى يزول عنا الألم.. كل شيء بعد رحيله عدم.. حين غفت عيناه إلى الأبد رمّدت الزوايا والرفوف وانطفى سراج الأمل، خرجت مهرولا ومبتعدا. ومشيت بالوادي وقد أينعت وزهت مساربه نضارة وجمالا وقد ساده صمت الحضارة بعد أن كان ذات يوم تملأ جنباته أصوات المعاميل وعزائم الرجال بين زارع وبان، وآخرون يحصدون ويجمعون القمح من الحقول، ركائب أهدتنا خيرها وحبوبها، وآبار سقيناها مدامعنا وتعبنا فسقتنا ماءَها العذب أياما وسنين وكأني أرى النساء يملأن القِرب وقد علت وجوههن تفاريح اللقاء، يستقين ويتبادلن الأخبار ويتناقلن الهموم ويحملنها وقِربهن إلى بيوتهن. ولا يشبهك قريتي إلا آلاف القرى الساكنة فوق سفوح جبال السراة كحبات لؤلؤ متناثرة، ولكن ستظلين يا قريتي في الذاكرة أروي حكايتك ما حييت، تبرعين في الجمال والنقاء وتزيدين في شوقنا إليك.