هل وضعَ قدمَهُ على الجرف؟.. هل كانت الأرضُ زلقةً بما يكفي لئلا تخذلَه؟.. هل تيقّنَ من الجُبِّ إذْ لا دلاءَ ولا سيّارة؟.. هل انطوى الظلُّ والتهمتُهُ شمسُ الغياب؟.. هل اكتملَ البياضُ وعادَ أدراجَهُ نحوَ المحاق؟.. هل خَلَتِ الصفحاتُ من حروفِها ذائبةً في رملٍ لا يني يتوسّعُ في صحراءَ يُطبِقُ عليها قوسُ النهاية؟.. لا بُدَّ أنّ حيرةً لائبةً كانت تنفتحُ بين قدمَيْ إسكندر حبش لا تطمرُها الذاكرةُ لأنّ لا شيءَ فيها يعينُهُ عليها، ولا تردمُها قصيدةٌ تأتي من الحياةِ أو من الأسلاف الذين يعتمرونَ صمتَهم منذُ الظلامِ القديم. كلّما خطَى تحسَّسَ الزلزالَ والزوال. كلّما نبشَ انهالَ الليلُ والرمادُ على اليدينِ الغريقتينِ في بحرٍ ينكرُهما لكنّه لا يَلفِظُ ولا يُدرِكُ بالقاع؛ على اليدينِ الغريبتينِ تجزُّهما لغةٌ قاتلة شحذتْ مديتَها على صوّانٍ متجبّرٍ اسمه مرّةً الحياة واسمُه مراراً الزمن. ثقلُ رازحٌ يصرمُ الكتفَ، ويلوِي الأصابعَ تكتبُ بالدمِ المطلول وبالنَّفَسِ المبهوظِ "لا شيء أكثر من هذا الثلج" (دار التكوين، دمشق 2014).. تكتبُ فراغَ اليدِ وليلَها الطويل. تسجّلُ برودةً مقبلةً وفجراً لا يأتي وخلاءً ينقّطُ فيه العدمُ سمومَهُ ولا ترياق. في الوراء تقعُ الحياة، وفي الأمام لا يزدهرُ إلا الوهم بريحٍ يخشخشُ فيها الخريفُ على وقْعِ غيابٍ يوشك؛ يلدغُ النظرةَ ولا يطعمُها حتّى بالسراب. يذهلُ إسكندر عن إسكندر. ينمحي الاسمُ وتذوبُ الصفة. يتراءَى طافياً على صفحةِ الصوتِ؛ وجوده الذي يذهبُ عنهُ، يغادره متروكاً في التيه: ("ولستُ أنا مَن أنا عليه". ولستُ أنا، سوى وحدي في بلادِ الملحِ هذه. ومَن أنا، أنا الذي أجتازُ عتبةَ الصوتِ المجهول. أبتعدُ عن نفسي، ولا يزالُ وجهي مجهولاً مني.// "ولستُ أنا مَن أنا عليه". كنتُ أقولُ إني من كلماتٍ، أشعرُ بها وهي تتركُ خلفَها هذا الغيابَ الذي فقدَ نداوتَه.// ولستُ أنا... مَن أنا الآن؟ يوقظني بردٌ. أتوهُ كغريقٍ. أتوهُ كمن يكتبُ في صوتِه). يمكثُ الشاعرُ في أعرافِهِ، في صحراءَ لا تشبهُ أحداً غيرَهُ، في بحرٍ نسيَ زرقتَه وفاحَ بالمراكب الغرقى، في شتاءٍ مدلهمٍّ بالنهايات. التحديقُ في البقعةِ ذاتِها. تسكنُهُ الرحلةُ الأخيرةُ، والأطيافُ الغاربة في صورةِ ظلالٍ لا تُحسِنُ شيئاً مثلَ الاستدارة.. مثلَ طَيِّ العين طَيّاً كأنّها يوماً لم تحضن حبيبةً ولا ضمّت شجرة ولا خلّفت في الروحِ جمرةً تضرمُ الكلمات: (... كلُّ الكلماتِ بيضاءُ، ولا تعرفُ شيئاً عن الزمن، عمّا تركتْهُ فوقَ جسدِكَ من حجارةٍ تحجّرت). (أجتازُ بِحاراً، شتاءً. لا أسمعُ سوى صوتٍ ينكسرُ فوقَ زرقةٍ تحترق). الصوتُ الملحاحُ يلتصقُ بالجلد، تتدبّغُ به الروح. النَّزْعُ الذي يهونُ دونَهُ قلْعُ الشوك. الذبذبةُ المقيمةُ في الأذنين وتلسعُ في الداخل جُرحاً يتقدّمُ ويكبُرُ في الاحتدامِ وفي التشقّقِ؛ في الانسلاخِ أداتُهُ ليلُ غيرُ رحيمٍ ولا يأبهُ. ينزلقُ من رَحِمْ لا يهبُ الحياةَ؛ قلعةِ النّار التي تشرِفُ وتسدُّ المنافذ. في مُلتقَى النيرانِ يخفتُ الصوتُ غير أنّه لا يختفي ولا يودّعُ ويتضخّمُ حديثُ الرمل: (كما لو أنّ باباً أُقفِلَ وراءك. وفي فمِكَ صوتٌ ينقسمُ على نفسِهِ، يتبعثرُ، يتشقّقُ مثلَ هذا الجدارِ الذي آخيتَهُ لأسابيعَ طويلةٍ. تمرُّ كلماتُكَ عبرَ الليلِ. تمرُّ كزمنٍ لا يتعبُ. كحدودِ ظلٍّ ينعكسُ على وجهِك). (... وما امامَكَ من ترابٍ، هو العالمُ الوحيدُ الممكن، لأنّك لم تسكن سوى الطفولةِ. لم تسكن إلا في الكتاب. // لأنّك عشتَ في حجارةِ الألم). التهلكةُ التي اندلعتْ نشيداً يبابيّاً، تقصُرُ عنه الروح إن لم تتلقّهُ "صوتاً" و"نبْراً"، لكلِّ ضائعٍ وغريب في هذا العالم. التهلكةُ التي تواري الجسدَ في مهاويها، أبداً لن تدحرَ الصوتَ؛ تأشيرةَ مرورِ الشاعر بهذا العالم تقولُ إنه كان هنا، وإنّه لم يبعدْ الكأسَ عن فمِه: (لا شيء سيبقى على الطاولةِ سوى آثارِ كفِّكَ. "..." يدُكَ التي وضعتَها على جسدِ امرأة. يدُكَ التي لم تعرف أن تكتبَ سوى ليلٍ أحاطَ بكَ من كلِّ الجهات).