من أنا بعد الآلة؟ شخص معظم أوقات يومه يقضيها تنقلا وسفرا من جهاز إلى جهاز، ومن برنامج إلى آخر "محادثات، تواصل اجتماعي، ترفيه، ألعاب". ثمة أصدقاء كانوا يوما الأقرب إلى قلوبنا لم نقطعهم، ولكن لا وصل بيننا، أصبحوا يبيتون في الزاوية المعتمة من قلوبنا، الزاوية التي لا نذكرها إلا في تهاني المناسبات، أوَ ليت تهانينا تلك صادقة نعبر عنها لكل شخص بمفرده!، لكنها بقدرة قادر أصبحت رسالة واحدة تُرسل لجميع من تعرف، الذين تحب والذين لاعلاقة لك بهم سوى المجاملات، بضغطة زر. ما أقبح تلك المشاعر والعواطف التي تُنقل بكلمات قلائل، يتخللها الكثير من الرموز "قلوب، قبلات….إلخ من رموز الهاتف والوجوه التعبيرية"، بِتُّ أشك في مصداقيتها. أنا كما قيل قديما "نجم أضاء الكون يوما واحترق" حين قمت بمقارنة حياتي ما قبل التكنولوجيا والتقنية الحديثة، والآن وجدت أنني: هجرت القراءة والكتابة والتدوين، هجرت حرفا يدوية ما كنت أجد المتعة إلا بها. ما كان ذلك إلا شغفا لا مباحا أصابني تجاه تلك التقنيات، ووقعت في إدمانها، كنت أظن أن الترف هو أن أمتلك كل شيء مادي محسوس، كالأجهزه مثلا: أحصل عليها آنَ نزولها في الأسواق. أذكر أول مرة في حياتي اقتنيت فيها جهاز جوّال عن عمر يقارب الأحد عشر عاما، كان آنذاك أمرا غير مقبول بالنسبة لمن هم في عمري "اقتناء الجوالات"، ولا أخفي أنني كنت أُكن لأشخاص كثيرين الحقد، حين يوجهون اللوم لأحد والديّ؟ لمَ سلمتموها جهازا في هذا العمر؟! لكنني الآن عرفت حقا لمَ كانت الأجهزة محرمة على الصغار، وما سبب نقد الكبار حينها لي، ألا تحزنكم طفولة هذا الجيل! يؤلمني جدا منظر غرفة مليئة بالأطفال، وبحوزة كل منهم جهاز يلهو بعالمه، منهم من تعدى حدود سنِّه بكثير، وراقته الشبكات الاجتماعية والحديث مع الغرباء، والانجراف وراء آرائهم وأفكارهم، ومنهم من راقته برامج المحادثات ومنهم ومنهم.. مؤسف أن البراءة التي كنا نستمتع برؤيتها في تصرفاتهم وسلوكهم لا وجود لها الآن، عظم الله أجورهم في حياة خالية من القصص والمغامرات ومواقف الطفولة ومؤونة غير كافية من الذكريات.. أما الفرحة الحقيقية بالنسبة لي هي أن يهديني أحد والداي جهازا جديدا بمناسبة وحتى دون مناسبة!! أرأيتم الأفراح كيف صارت تقتصر على جهاز! بل إن بعضهم لشدة شغفه بالتقنيات أصبح يشتري أفراحا تكنولوجية تسعده! كمتابعي موقع تويتر الوهميين!. أمر مضحك أن تشتري عددا من المتابعين فقط لتوهم الناس أنك شخص محبوب أو بطل تقني، أتوقع أنه تعدى مرحلة الشغف ليصبح مرضا أو متلازمة جديدة.. لكن الترف الحقيقي هي روح تقرأ وتصل من تحب كما في السابق، روح تعيش مع الأشخاص المحيطين بها بعقل وقلب لا بجسد فقط، روح ملؤها طاقة إيجابية تبثها للناس، روح تعطي لكل حق وواجب في حياتها وقته، تعطي الحق الروحي والإلهي وقته، وتعطي وصل الرحم والعلم وقته، أما الأفراح هي أن أصنع شيئا وأحقق هدفا لهذا العام وألا ينتهي إلا وقد حزت بورق وشهادات وصور وأدلة كفاح حلوة كطعم السكر، وأن تضفي شيئا لسيرتك الذاتية، وكتاب حياتك الذي سيُقرأ بعدك. مرض المجتمع العربي هو التقليد يتبعه الشغف، ما رأيت شغفا مذموما كشغفنا بالإلكترونيات، أهدرت أوقاتنا، وأموالنا، وصحة أبداننا، وعقولنا، علاقاتنا.. ماذا لو حددنا للآلة في يومنا وقتا قليلا نأخذ المهم والمفيد منها؟! ماذا لو أولينا الحياة اهتماما أكبر وشغفا بكل ما تحمله؟ ماذا لو عدنا للأصدقاء القدامى؟ ماذا لو ضيعنا ساعات في عمل بسيط يقربنا إلى الله زلفى؟ ماذا لو قمنا برفع سماعة الهاتف للسؤال عن أحوال أقربائنا نصل أرحامنا؟ ماذا لو شاركنا من في المنزل مشاكلهم، أفراحهم؟.