تحكي لنا القصة عن نحلة ساذجة قليلة الخبرة، وقفت على ساق شجرة سامقة عملاقة دانية الثمار وارفة الظلال، ولما عجزت تلك النحلة عن اختراق لحاء الشجرة الوقور للولوج إلى لبها وتملك منها اليأس، أطلقت أجنحتها وقالت للشجرة سأغادرك؛ فنظرت إليها الشجرة بابتسامة لا تخلو من معاني التهكم والسخرية وقالت لها، وهل أنا كنت قد أحسست بوجودك عندما حضرتِ حتى تشعريني بغيابك عند الرحيل. أكتب تلك المقدمة لأكون أول المعلقين على مقالي قبل أن أخطه؛ وأنا أتحدث عن اثنينية الشيخ عبدالمقصود خوجة؛ التي تمتد علاقتي بها لما يقارب العقدين من الزمان، وتحديداً في أمسية تكريم شيخي الدكتور عبدالله المصلح في 13/8/ 1417، ومنذ تلك الليلة لم أتخلف قط عن حضور أمسيات الاثنينية؛ إلا أن أكون مسافراً أو مريضاً ملازم الفراش. بعد هذا التاريخ بسنواتٍ أقل من عدد أصابع اليد الواحدة وتحديداً في 7/1/1421، كتبتُ مقالاً في ملحق "الأربعاء" الثقافي بصحيفة المدينة بعنوان "الاثنينية.. معانٍ جديدة للتكريم والاحتفاء"؛ ذكرت فيها أن الاثنينية كانت بالنسبة لي جامعة مفتوحة؛ تعلمت فيها ما لم أتعلمه في الجامعات؛ وقابتُ قاماتٍ شامخةً كانوا بالنسبة لي علامات، وذكرت في المقال كوكبة من فرسان الاثنينية؛ مشيداً بقدرهم وفضلهم؛ والدعاء بالرحمة للراحلين وبكريم العناية الربانية لمن لا يزالون بيننا وروداً ورياحين، وشاكراً للاثنينية ما أتاحته لنا للاستفادة من هؤلاء الفضلاء من علومٍ ومعارف وطرائف فكلٌ منهم قمة وقيمة وقامة. وإذا كان هذا هو تأثير الاثنينية علي بعد تلك السنوات القلال، فما بالكم وقدر مرت علي بعدها ثلاثة أضعافها، وأنا ما زلت أنهل من رحيقها؛ مما حدا بي أن أنظم لها شعراً في ليلة عرسها عندما احتفل مؤسسها الكريم بذكرى مرور 25 سنة على إنشائها، فأنشدت بين المحتفين قائلاً: جئنا نسوق الورد والريحانا.. نصغي للحن شنف الآذانا.. يا ربع قرن من فؤادي تحية.. صاغت حروفاً هيجت أشجانا.. نثرت عليك الفضل اثنينية.. نزجي لها التقدير والعرفانا.. أمسية للحب صارت معلما.. أضحت على درب الوفا عنوانا.. إلخ. ورغم ما كان يلاحظه الرفاق في الآونة الأخيرة من تذبذب في المستوى وتراجع في إقبال الحضور؛ لم تتوقف إشادتي بالاثنينية قط بقلمي ولساني في كل مجلس ومحفل، وآخرها ما تضمنه مقالي بصحيفة المدينة في 15 / 7 / 1434؛ بعنوان "الأسبوعية.. على خطى الاثنينية". كانت مداخلات الحضور من أهم ما يثري الاثنينية، وكان المتبع سابقاً أن ترسل الأسئلة مكتوبة؛ فينتقي منها الشيخ عبدالمقصود ما يراه متناسباً مع الضيف والموضوع؛ ويختصر منها عبارات الشكر وأي حشو زائد، ويستبعد ما لا يتوافق مع قواعد ومبادئ الاثنينية؛ وكانت الأمور تسير على ما يرام؛ حتى خرج علينا "الدكتور عبدالله مناع" ذات أمسية بفكرة أن يلقي السائل سؤاله بنفسه على الحضور، والتزم الشيخ عبدالمقصود من بعدها بهذا النهج، الذي يبدو في ظاهره تطوراً حيوياً وديمقراطياً. ولكن؛ وآااااه من لكن، أتت الرياح بما لا يشتهيه المداخلون؛ فبعد أن كان السؤال المرسل كتابة ولا يرضى عنه الشيخ يحجب ويستبعد (ولا من شاف ولا من دري)؛ أصبح السائل الذي لا يروق للشيخ يتعرض للإحراج العلني على الملأ؛ من قبل مضيفنا الذي لا قبل لنا بالاعتراض على نهجه. أصاب هذا الهاجس وما أفرزه من وقائع الكثيرين من رواد الاثنينية بالهلع والإحجام، ومنهم كاتب هذه السطور الذي تشهد له سجلات الاثنينية بأنه كان أحد أكثر المداخلين نشاطاً وتفاعلاً، كما أفرز ضعفاً وتقليدية في كثير من الأسئلة التي أصبح سائلوها يؤثرون السلامة. أصبح دأب الشيخ في إدارته للمنصة الاهتمام بالوقت ولو على حساب الموضوعية؛ وكلنا يشهد أن هناك مداخلات تثري الموضوع وتستحق أن يبسط لها الوقت؛ ومداخلاتٍ أخرى لا نستشعر فيها أنها أعطت أي إضافة تستحق ما منح لها من وقت، ولأنني من أنصار الموضوعية والعمق؛ كان من الطبيعي أن أسقط في هذا الفخ فتنالني سهام الشيخ بالتقريع العلني. كنا والله نواظب على الاثنينية وفاءً لها ولفضل صاحبها بغض النظر عن الضيف والموضوع؛ ولو على حساب وقتنا وظروفنا؛ ولكن سبحان الذي يغير ولا يتغير؛ أبت هي أن تحفظ لنا وفاءنا؛ وتقدر ولاءنا، فآن أوان الفراق لنقول لها وداعاً.