في كتابه "غرقٌ في الورد" الصادر قبل أكثر من عشر سنوات، كتبَ الشاعر السوري حسين حبش قصيدةً عن الطفولة مستلةً من الذاكرة وترشحُ بالحنين. نقرأ "طفولةً مدعوكةً بالرثاء" تترقرق مع "رغوةِ العينِ المجروحة".. "طفولةٌ تنظرُ بين الحين والحين إلى المرآة/ كي لا تزول كوهمٍ من الكون/ طفولةٌ رافلةٌ في ذاكرة الحزن/ مستعذبة كقطعة حلوى/ كقطاف التوت/ مسروقة/ بريئة كالنخاعِ في تكوينِهِ الجنيني/ صافيةٌ وقلقةٌ كالحبِّ النادر/ طفولةٌ مجبولةٌ من هواء الحقول ونداء الريح وأعشاش الطيور العالية/ طفولةٌ "مهنتُها ابتلاعُ الحياة". وبعد أكثر من عشر سنوات؛ من الاحتفاء بالطفولة والاحتفال بأعراس الحياة على صدى الذاكرة ونازلةِ الحنين.. تنزلُ على عينِ الشاعر ستارةٌ كثيفةٌ من الدمع، وتصهرُ قلبَهُ مشاهدُ حيّة دامية تُنتهَكُ فيها الطفولة بالقتلِ والتعذيب والتشويه والتهجير. آلاف الأطفال قضوا نحبَهم مع الثورة السوريّة، التهمتْهم آلة القتل وعبثتْ بأجسادهم المخالبُ المعدنيّة. تركوا ما لا يَندملُ وما لا يُغفَر. تركوا الحفرةَ والجُرحَ ونُتَفَاً من الحكايات تسيلُ بالوجعِ ومرارتِه. ولا أعرفُ مقدارَ الجهدَ الذي بذلَهُ الشاعر حسين حبش وهو يكتب "ملاك طائر" (منشورات مومنت، بريطانيا 2013) ليصفي من قلمه هولَ الصدمةِ ورعبها ويسحبَ منه حبرَ الدمِ الثخين لئلا تأتي الكتابة مباشرةً منفوخةً بالصوت وحدَهُ، وله شفيعٌ إن فعل، فالواقعة لم تزل طازجة ونافورة الدم تسفعُ ضمير الإنسانية صباحَ مساء.. غير أنّ الكتابة الإبداعية لها شأنٌ آخر تعرفُ كيف تنفُذُ إلى كيمياء النّص؛ تستنطقُ الوقائعَ شعريّاً دون الإخلال بمجرياتِها ولا بمستنداتها من أسماءٍ وصُوَرٍ وأخبار. التوثيق له مكانه والشاهدُ لا يغفل عن مدوّنة الدم، والشعرُ لا يغفو أبداً. لا يتحلل من الرصد ولا يسهو عن الحضور. يتسلّل ببساطة ويحكي ببساطةٍ مثلَ لغة الأطفال وعلى جناح خيالِهم يعبر إلى النص. لا تغادرُهُ اللمعةُ ولا يكفُّ عن الإدانة. الشاهدُ بقلبِهِ المفجوع وبعينِهِ الساهرةِ الشاعرةِ يطالعُ الوجوهَ والحدثَ والحكايةَ ويعالجها جميعاً في مختبر الشعر. الخذلان الكبير والصمم العاتي قبالة أطفالِ الثورة السوريّة. التخلي الذي أطالَ من عمرِ المأساة، وراكمَ أعداد الضحايا الذين باتوا مجرّد أرقام لا يرفّ لوقعِها الصارخِ جفنٌ، تنفضُهُ عينُ الكاميرا التي لا تخذل ولا تحايد ولا يصيبُها خللُ "الحسابات الجيوستراتيجية" وسواها من رطاناتِ التأجيل والعمى. الكاميرا التي نظرت ولم تحتمل؛ تأنسنتْ وغدت أكثر إنسانيّة وضميراً شاهداً يذرفُ الدمعَ حين عزَّ الضمير: (الكاميرا التي كانتْ تُصوِّر/ جثثَ الأطفال/ ارتعبتْ من المشاهد المروِّعة/ تَراجعتْ خطواتٍ/ مُرتبكةً إلى الوراء/ وانهمرتْ دمُوعاً غزيرة/ من العَدَسَة!). وعندما تحضر الكاميرا، يجري استدعاء المنظور والزاوية وحصر المشهد في بؤرته التي ستصدر عنها الحالة الشعريّة بحرارتها الحارقة ووضوحِها الفادح، كما هو الحال في نص "غارات": (في الغَارة الأولى فَقَدَ حذاءه/ في الغَارة الثانية فَقَدَ أصَابعه/ في الغَارة الثالثة فَقَدَ قَدمه/ في الغَارة الرابعة فَقَدَ سَاقه/ في الغَارة الخامسة لم يَفقد شيئاً/ كانَ يمشي بقدمينِ من الضَّوء/ مع أقرَانه الملائكة الذينَ سَبقوه إلى السَّماء). .. إذ تتوالى الغارات واحدةً بعدَ الأخرى، ومع تتابعِها يرسمُ الجسدُ الطفلُ تلاشيه بشكلٍ محسوسٍ عضواً عضواً حتّى، مع الغارة الخامسة، لم يبقَ منه شيءٌ ليُفقَد؛ علامة استشهادِهِ وصعوده التحاقاً بأطفالٍ مثله سبقوه نحو الضوء السماوي. لم يخرج الشاعر من الكادر ولم يُدخلِ عليه معادلة تكافئ القصف ليحقّق، في الأقل، انتصاراً معنويّاً. إنما التقطَ بشاعة الجُرم وحدّدَ أثره وإذا كان من إشعاعٍ فسوف نترسّمُهُ في ضربة الختام عن طفلٍ "يمشي بقدمين من ضوء". وللمفارقة يحضرني، الآن، مقطعٌ شبيه ومختلف، في الوقت ذاته، لممدوح عدوان بعنوان "صحراء": (كنا في الصحراء/ ظمأى نبحث عن قطرة ماء/ ننتظر الغيث فلا يأتي/ من أي سماء/ كنا كوما لا نعرف/ إن كنا موتى أم أحياء/ حين أتت طائرة الأعداء/ قصفتنا/ قصفتنا/ قصفتنا/ ألقت كل قنابلها/ فتفجر نبع الماء) حيث القصف في "صحراء" لم يكن إلا من جهة العدو لا مِن جهة حاكمٍ ابن الجلدة والوطن؛ مَن يدّعي "الأبويّة" بيدِهِ الماسحةِ؛ الكاسحة. وربّما هذا ما يفسّر نبرة الأمل وتلقّي الحادثة في نص ممدوح عدوان باستبطانٍ يعني الانتصار، فيما نص "غارات" يبرأُ من الأمل ومن الطوبى المجانيّة أمام الخراب الشامل والدمار المستشري. أقدّر أنّ ل"ملاكٌ طائر" دورةً من الانتشار والذيوع الجماهيري، داخل لغته العربية وخارجها، لا بسبب موضوعِهِ الساخن وحديثه عن الطفولة وبعين الطفل في كثيرٍ من نصوص الكتاب وحَسْبُ. إنما هناك أسبابٌ إضافيّة تتّصل بالبساطةِ واليسرِ والسهولة التي أجرى الكاتب عليها نصوصه، مع عمقٍ يلامسُ الشعرَ ويلتصق بالطفولةِ لغةً وخيالاً. ذاتَ غرقٍ، كتبَ حسين حبش جملةً سأضعُها في سياق الاستفهام "مَن يشقُّ لثةَ موتي بالحياة"؟.. ومع ملاكِهِ الطائر نصرخ جميعاً: (يا إلهي، كيف يستطيعون قتل الأطفال؟). * كاتب سعودي