ركبان القرني ما زالت تتردد بين الناس تلك الأسطورة القديمة والمتجددة عن غباء النعامة و"دحدحتها" إلى درجة أن تدس رأسها في التراب عند اقتراب الخطر منها أو من صغارها، حتى أصبحت هذه المقولة من الأمثال المسلم بها والتي تطلق على أي إنسان "يصم أذنيه ويغمض عينيه ويغلق فاه" عندما يعجز أن يتعاطي أو يتعامل مع الأمور الصعبة أو يريد أن يتجاهل ما يحدث حوله، لا ترفعاً بل ضعفاً!.. أولاً أبشركم أن النعامة بريئة من تلك التهمة "الغبية" براءة جدتي من قضية مشاهدة اليوتيوب أو تصفح الواتساب.. وكل ما في الأمر أن أحد "الأغبياء" شاهد النعامة وهي تهوي بعنقها الطويل لتمدد رأسها فوق بيضها حماية له من ذلك المتطفل، بحيث تكون قريبة منه بمنقارها، تأهباً للدفاع عن "فلذات كبدها" فانشغل ذلك الغبي بتفسير هذا المنظر حتى استقر رأيه على أن النعامة دفنت رأسها في التراب لكي لا تشاهد معركة مصيرها المحتوم، مما دعاه لتركها وشأنها، ويعود إلى مرابع قومه يحكي لهم تلك القصة الغريبة وذلك الاكتشاف العجيب، ومن ثم صدقهُ قومهُ، ومن ورائهم أقوامٌ آخرين، إلى أن أصبح ذلك الاعتقاد إرثاً لبني البشر جيلا بعد جيل، ونفذت تلك النعامة بهذا "الذكاء" بجلدها وبنسلها من الافتراس فضلا عن الانقراض، وتغلب الحيوان على الإنسان في معركة البقاء والتكاثر والانتشار والتناسل، بمجرد أنه أوهم الآدمي بتلك الخدعة الرهيبة، مما جعل الإنسان يصرف النظر عن حيوان النعام، ظناً منه أنه ضعيف ومسكين، وأنه لا طائل من التعب وراءه أو الجهد في اصطياده! ثانياً وبما أنه انتهينا من قضية دس النعامة لرأسها في التراب، وأصبح من المتيقن أن ذلك لم يكن سوى كذبة غبية وفرية ساذجة، فلنأت إلى دور الإنسان في هذه القضية، حيث إنه من المؤسف أنه هو من هو في موضع الضعف وفي موقف الغباء، نعم والشواهد كثيرة لا يمكن أن تحصى ويستحال أن تُعد! ولو أخذنا في تعداد ونشر كل القضايا التي نشاهدها يومياً ونعايشها ساعة بساعة، وهي تستوجب منا التعامل معها بما يمليه علينا الواجب أو تفرضه علينا الظروف، إلا أننا نتجاهل مشاهدتها ونتغافل عن الإحساس بها، ويصل بنا الأمر إلى درجة إنكار وجودها أصلا، مما يعطيها زخماً في التكاثر وقوة في التكالب، وهي تتدحرج في كل الاتجاهات ككرة الثلج، حتى إذا ما وصلت إلى الأبواب المسدودة حدث الانفجار، وحصل الدمار، حيث لا ساعة مندم .! وكم سمعنا عبارة "والله إن الأمر كان في يدي لكنني فرطت...." ومقولة "أنا كنت عارفا لكن لم أحسب أن الأمر كان بهذا الشكل" وأيضاً "كنت أظن الأمر بسيط، أو أنها فترة وتزول" ومن هذه الأعذار التي نتحجج بها ونحن نضرب "كفا على كف" على ما فرطنا فيه، وفي الحقيقة أنه لا يمكن أن نفصل الأشياء بعضها عن بعض، أو نعزل الخطر إلى أمر عن أمر، فكل شيء في دائرة التساهل والتغافل ولو كان أمراً يسراً، يمكن أن يكون كارثة كبيرة بسبب دس رؤوسنا في التراب، وموت إحساسنا بما حولنا، بل وما نحن في قلبه من الأحداث المتعاقبة، والمستجدات المتتابعة على المستوى الشخصي والأسري الخاص، أو الاجتماعي والوطني العام.. وإن لم ولن يكون باستطاعتنا رد المشيئة أو منع القدر، إلا أنه باتخاذ الأسباب وعمل الواجب، نكون قد أدينا ما علينا، ثم أنه لا يلام المرء بعد اجتهاد.