المتأمّل في تاريخ التّراث الإسلاميّ يجد أنّه تاريخ معطّر بالحبّ، ولم تكن ثقافة الكراهية يومًا ما ثقافة يكرّسها الدّين والعقيدة، بل إنّ الأديان السّماويّة كلّها تتّفق على نشر ثقافة التّسامح والأخوّة والحوار البنَّاء الذي يقوم على أواصر قويّة من الحبّ، وفي كلّ مشاهد التّاريخ الإنسانيّ لم تشهد التّواريخ الماضية أسلوبًا، ولا منهجًا، ولا ثقافة تقوم على الحبّ كالهدي النّبويّ الكريم حتى على المعاندين من الكفّار المحاربين الذين وصفوا النّبيّ الكريم بالسّحر والشّعر والجنون، وبأنّه معلَّم أو مفتر، ومع هذا قَبِل منهم توبتهم وإسلامهم، مع شدّة معاندتهم لدعوته السّمحة، وهديه الكريم -صلّى الله عليه وآله وسلّم- كما خرج بعض المنشقّين عن الدّين الإسلاميّ الذين اصطلح على تسميتهم ب(المرتدّين)، وناوؤا رسول الله ودعوته، وبالغوا في الكيْد له، ومع أنّه أهدر دماء بعضهم، إلاّ أنّه حين جاءه بعضهم قبل توبتهم، فحسن إسلامهم، كأبي سفيان، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح الذي كان مسلمًا، بل ووصل إلى درجة كاتب للوحي، ثم إنّه عرضت له بعض الشّكوك أو الإغراءات، فارتدّ عن الإسلام، وبالغ حين شتم المصطفى -صلّى الله عليه وسلّم- وكذب عليه حين قال إنه كان يعلّم النّبيّ القرآن الكريم، كلمة تقشعر لهولها الأبدان، ومع ذلك لمّا جاء إلى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - تائبًا معتذرًا لم يقتله، ولم يزد على أن قبل توبته، منتهى التّسامح النّبويّ ومنتهى الأدب والحلم، إنها المدرسة النّبويّة التي ترعى المصالح، وتدفع باتجاه التّوبة وقبول المخطئ أيًّا كان خطؤه، ومهما كانت جريمته، حتى الصّحابي الجليل ماعز الأسلميّ الذي زنى واعترف بالزنا الصّريح، ومع هذا كان يلقّنه التّوبة ويقول: (لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ)، وردّه أكثر من مرّة لعله يتوب، وحتى حين أقام عليه الحدّ، وهرب من ألم الحجارة، ولحقوه ورجموه حتى مات لم يقرّهم على ذلك وقال: (هَلا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ، فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ). قمّة الحبّ والسّماحة، قمّة الرّأفة والرّحمة، قمّة الشّفافية والوضوح، (فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ). ومن أدنى خطأ كالبُصاق في المسجد، وحتى البول فيه إلى أعلى خطأ وهو الرّدة وسبّ المصطفى - عليه الصّلاة والسلام - لم يتّجه النّبيّ إلى التّعنيف أو أخذ المخطئ بخطئه في أغلب الأحيان، وكان منهجه (ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). الجميع احتواهم القلب النّبويّ فهل نقتدي به، هل نقدّم أهواءنا ورؤانا في التّشفّي من تائب مستغفر؟ هل ننتصر للحقّ المتمثّل في ثقافة الحبّ والصّفح والتّسامح أم ننجرف خلف النّفس والانتصار لها بدعوى المحبّة للنّبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم، هل نحكّم العقل أو النّفس وحظوظها؟ لا أحد يسلم من النّقص البشريّ، ولا نريد من النّاس أن يكونوا ملائكة منزّهين، ولا يمكن بحال أن نقول إننا معصومون من الخطأ، ولا نأمن على أنفسنا أيضًا من سوء الخاتمة، والتحوّل العقديّ بالخروج من ربقة الإسلام. كلّ إنسان مهما بلغ علمه أو تديّنه أو ورعه معرّض للخطأ والزّلل والنّسيان للكفر والرّدّة والانتكاس، ولأيّ تحوّل آخر من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار، الثّابتون على خطّ واحد حتى النهاية قليل؛ فالثّبات على الدّين والرّؤى المعتدلة والجميلة نزر يسير، وكلٌّ يدّعي الوسطيّة والاعتدال، ووسم الآخرين بالتطرّف والانعزال. كلٌّ يدّعي التّسامح، ويمارس الإقصاء في أبشع صوره. إنّ الثّبات على كلمة الحقّ والعدل يحتاج إلى نفوس ملؤها الحبّ والرّضا والتّسامح، كلما ازدادت معرفة ويقينًا بهذا الدين زادت قناعتها بأنّ في ديننا فسحة للجميع: للمخطئ حتى يتبيّن له وجه الخطأ، للمنافق حتى يتوب، للمرتدّ حتى يفيء، للكافر حتى يسمع كلام الله. إنّ من أهمّ السّمات التي تميّز التّشريع الإسلاميّ عن بقيّة القوانين والتّشريعات الحديثة والقديمة الفسحة في الدّين، ويختلف النّاس في التّعاطي مع وجهات النّظر الأخرى، وفي حرّيّة الاختيار بين منهج الفسحة والتّيسير ومنهج التّشديد والتّعسير، والعبرة بجمال النّهايات وحسن عواقبها، ولكلٍّ وِجهة هو مولّيها.