سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مغامرة آخر الليل.. رحلة التعليم "المصحوبة" بالخوف معلمو ومعلمات الشريط الحدودي يقطعون 450 كيلومترا في رحلتهم اليومية.. فريق وزاري يرصد ميدانيا احتياج المدارس
قبل أن تلوح في الأفق خيوط الفجر الأولى، وقبل أن تصدح المآذن بصوت آذان الفجر، تكون قوافل مئات من المعلمين والمعلمات قد شدت الركاب من كل حدب وصوب، قاصدين مدارسهم في أغوار تهامة قحطان والمناطق الجبلية على الشريط الحدودي في محافظة ظهران الجنوب.. يسلكون الطريق صباح مساء في رحلة قسرية.. طريق محفوف بالمخاطر كثعبان مرعب في شكله ووقعه، وما إن يصلوا في رحلة مغامرة آخر الليل إلى أعلى نقطتين في عقبتي الجوة بسراة عبيدة وخشبة بظهران الجنوب حتى تبدأ رحلة أخرى من الوجل والفزع على طريق أعلاه منعطفات ومنحدرات وأنفاق، وقاعه صخور وعقوم.. وثمن تلك الرحلة، بين الفينة والأخرى، أرواح بريئة من معلمين ومعلمات ذهبوا في حوادث قاتلة سببها في الغالب مهربون ممن فقدوا إنسانيتهم قبل أن يتخلوا عن وطنيتهم.. تحرك وزاري يبدو أن سلسلة حوادث المعلمين والمعلمات في المناطق الجبلية التهامية، والجرائم التي يتعرضون لها من قبل مجهولي الهوية في تهامة والشريط الحدودي مع دولة اليمن، والضغط الكبير الذي لعبته وسائل الإعلام المختلفة في النشر والنقد، قد حركت على ما يبدو مشاعر المسؤولية لدى قادة التعليم، فبعثوا فريقا لرصد احتياجات جميع منسوبي التعليم في تلك المناطق النائية. "الوطن" وخلال يومين متتاليين، ومنذ ساعات الصباح الأولى وحتى مغيب الشمس، رافقت مسيرة ذلك الفريق بقيادة مساعد مدير التخطيط في وزارة التربية والتعليم عبدالعزيز الحميضي الذي بين أن مهمة الفريق الأساسية هي رصد احتياجات مناطق تهامة والمناطق الجبلية والحدودية فيما يتعلق بخدمات الطلاب والطالبات والمعلمين والمعلمات والمشرفين والمشرفات ووسائل النقل وبرامج تكافل. عقبة الجوة جاءت الانطلاقة من مقر الإدارة التعليمية صوب مركز الفرشة عبر أشد عقبات المنطقة خطورة ووعورة وهي "عقبة الجوة" التي تنحدر بشكل مخيف من أعالي جبال السروات إلى منحدرات سهول تهامة في مركز الفرشة.. أحد مرافقي الفريق الوزاري، ويدعى حسين آل خزيم، أراد توصيل أول رسالة للفريق الوزاري قبل الانطلاقة نحو أغوار تهامة، حيث فضل التوقف لدقائق في موقع حادث المعلمات الأخير الذي تسبب في وفاة وإصابة تسع معلمات - لا تزال الناجيات منهن يتلقين العلاج - بسبب تهور أحد المهربين في أعلى عقبة الجوة التي تشهد، وبشكل يومي، حوادث مميتة وضبطا للمهربين والمتخلفين، كونها المخرج الرئيسي لقطاع تهامة على مدن سراة عبيدة وخميس مشيط وأبها.. توجب على الفريق الوزاري بعد ذلك المرور بعدد من الأنفاق المخيفة المخترقة لسلسلة من الجبال الشاهقة قبل الوصول إلى مركز الفرشة، حيث كان في استقبالهم مدير مكتب التربية والتعليم بالفرشة، مشبب البشري، الذي زودهم بخطة التنقل بين عدة مدارس للبنين والبنات، كما أعطاهم نبذة مختصرة عن الطبيعة الجبلية الوعرة لمنطقة تهامة. وادي سريان حكاية أخرى من فصول معاناة المعلمات والمعلمين في أغوار تهامة، إذ يتوجب عليهم يومياً المغامرة بعبور الطريق الترابي الوعر الذي ينصف وادي سريان.. أحد أخطر الأودية والذي تداهمه السيول المنقولة، ويمتد طريقه لأكثر من 50 كيلومترا في عمق الوادي باتجاه منطقة جازان. ولم يكن غريبا أن يطلب الضيوف الجدد التوقف لعدة مرات خلال بحثهم عن مدارس الوادي، مرة بعذر الذهاب إلى "الخلاء" وثانية لمشاهدة المتخلفين المنتشرين في أعالي الجبال الشاهقة التي تغطي ظلالها عمق الوادي بشكل جعل الجميع يشعر بالخوف وقد أصبحوا في منطقة معزولة تماما عن العالم الخارجي، مع انعدم كل وسائل الاتصالات.. حتى الدوريات الأمنية غائبة عن الوادي. فجأة أوقفنا مجهول يمني اسمه كما يدعي جعبر سالم ومعه شاب يقول إنه ابنه، يطلب الماء والغذاء وقد بدا عليه التعب. وأكد جعبر أنه رُحّل قبل عدة أيام عبر منفذ علب الحدودي واستطاع الدخول مرة أخرى.. لم نستطع الإبلاغ عن المجهولين لانعدام الاتصالات.. مبان وليس بشائر وبعد مسيرة استغرقت أكثر من ساعتين توقف الفريق الوزاري عند مقر مدرسة المتية الابتدائية والمتوسطة للبنات. وعكس مشهد تعليق لوحة المدرسة على جدار فناء المبنى المستأجر والمتهالك حال التعليم في وادي سريان. وتركزت مطالب أولياء أمور الطالبات على ضرورة بناء مبنى حكومي بعيداً عن مجرى الوادي، وافتتاح فصل للمرحلة الثانوية، حيث ينتهي تعليم الطالبات في المرحلة المتوسط. ومع تعالي أصوات الأهالي أجاب عليهم أحد أعضاء الوفد "أبشروا"، فرد عليه حارس المدرسة جابر مفرح القحطاني قائلا: "سمعنا من البشائر الكثير ممن سبقوك، نريد مباني.. لا نريد بشائر. فالطالبات "حنذتهن" حرارة الشمس، لأن أسقف المبنى من الصفيح والهناجر". وخلال النقاش "الحاد" بين الطرفين - الأهالي والفريق الوزاري - كانت نظرات فتيات صغيرات تمرقنا من فتحات صغيرة في بوابة المدرسة ولسان حالهن يقول إن مصير أحلامهن بالخروج من وادي سريان لإكمال تعليمهن صعب المنال، كيف لا وتعليمهن ينتهي بمدرستهن المتوسطة! موديل السبعينات واصل الفريق رحلة النزول في وادي سريان، وعلى بعد كيلومترات من مدرسة المتية للبنات يقع على الضفة الأخرى من الوادي مجمع غزوان التعليمي للبنين في مبنى مستأجر، سقفه من الهناجر أيضاً.. ساحة المبنى المخصصة كملعب مليئة بالأتربة والأحجار، أما غرف الفصول فحدث ولا حرج.. ظلمة وسط النهار، ولا تتوفر بها وسائل تعليمية، وغرفة المدير لا تتسع لأربعة معلمين.. معلمون متذمرون. بعضهم سكن في غرف مستأجرة بالقرب من مبنى المدرسة، لأنهم لا يملكون سيارة دفع رباعي، فيما يسلك 11 معلماً رحلة آخر الليل ذهابا وإيابا من مدينة أبها إلى وادي سريان. لحظة مغادرة الفريق لمجمع غزوان التعليمي، اصطدمت بواقع وسائل نقل الطلاب وهي "شاصات" موديل السبعينات، بينما أكد مسؤول من الإدارة التعليمية أن عقودهم تشترط سيارات من الموديلات الحديثة. أصر عدد من معلمي المدرسة على نقل معاناتهم المتمثلة في زيادة بدل النائي، وتوفير دوريات أمنية وحراس للمدرسة وعيادات طبية وتوفير اتصالات. انطلق الفريق مع زيادة في السرعة للوصول إلى أقصى نقطة للإدارة التعليمية على حدود منطقة جازان، وهي مدرسة النواس بن سمعان، حيث تمكن الفريق من الاجتماع مع منسوبي المدرسة قبل انتهاء الدوام الرسمي.. مدير المدرسة محمد رفاعي قال: على الرغم من وجودهم في مبنى حكومي جديد، إلا أنه يفتقد لكثير من الخدمات، سواء المتعلقة بالوسائل التعليمية أو حتى ما يتعلق بخدمات المعلمين الذين يتحتم عليهم التنقل يوميا من وإلى المدرسة، ومن مدن بعيدة كجازان وأبها، حيث يصلون متأخرين إلى قاعات الفصول. أما وسائل النقل وخدمات الطلاب فهي لا تذكر بسبب عدم تقدم أحد بسبب المخصصات المالية، ومن جهة أخرى استحواذ أولياء أمور الطلاب على مخصص تكافل لمن يصرف له من الطلاب. رحلة الخروج وما إن استقامت مركبات الفريق الوزاري ومرافقيه على طريق العودة للخروج من وادي سريان، حتى تفرقوا بسبب التفاوت في السرعة ووعورة الطريق وخروج مركبتين عن الطريق المؤدي إلى مدارس وادي شيبة ووادي الحياة. صادفنا في رحلة العودة عند الساعة الثالثة عصراً سيارات تقل معلمات في طريق عودتهن إلى أطفالهن ومنازلهن في مدن عسير الجبلية.. استوقفنا إحدى تلك السيارات في مركز الفرشة، وفي حديث جانبي مع قائد السيارة من نوع صالون، ويدعى سعيد علي (55عاماً)، أكد أنه ينقل سبع معلمات من خميس مشيط إلى مدارسهن في مراكز الربوعة والغايل بظهران الجنوب على الحدود اليمنية، ويتوجب عليه الانطلاق عند الثالثة فجراً ومن ثم العودة عند الخامسة عصراً، ليتمكن من قطع مسافة 450 كيلومتراً ذهابا وإيابا مقابل ألفي ريال عن كل معلمة. لم نستطع أخذ معلومات عما يعانيه من مصاعب وخطورة تقابله في الطريق بسبب ضيق الوقت، لكنه اكتفى برفع سلاح من نوع رشاش من تحت مقعد السيارة، وقال: الله معنا ثم هذا.. فهمنا الرسالة، وانتهى يومنا بغروب الشمس بوصولنا إلى أعلى نقطة في عقبة الجوة. رحلة ظهران الجنوب اليوم الثاني من جولة الفريق الوزاري، خصص لمدارس الشريط الحدودي في محافظة ظهران الجنوب التي تشرف على أكثر من 100 كيلومتر على الشريط الحدودي بمحاذة محافظة صعدة اليمنية، حيث وصل الفريق يرافقه مدير مكتب التعليم بظهران الجنوب، سعيد هباش أبو حديد، إلى مجمع الحاجر التعليمي. وفور وصوله استمع إلى ما تعانيه المحافظة فيما يتعلق بالتعليم من أحد أعيان ظهران الجنوب( محسن بن سالم آل دوسري)، الذي طلب من الفريق البقاء عدة أيام حتى يخرجوا بتوصيات بناءة، خصوصاً أن مدارس ظهران الجنوب الحدودية تحتاج إلى الدعم، سواء ما يتعلق بخدمات الطلاب والطالبات أو المعلمين والمعلمات، وضرورة تنفيذ التوجيهات السامية التي تؤكد ضرورة توفير كل ما تحتاجه المناطق الحدودية من خدمات. مدير مجمع الحاجر، ظافر الوادعي، قال إن معاناة المجمع تكمن في مغادرة 15 معلماً سنوياً بسبب النقل الخارجي، حيث تحول إلى حقل تجارب. أما مدير مدرسة يزيد بن أبي سفيان، سعيد آل شائع، فقال إن أكثر ما يؤرقهم هو توحيد وسائل النقل لجميع الطلاب من مختلف المراحل الدراسية، وفي ذلك خطورة على الأطفال، كذلك قلة حوافز برنامج تكافل للطلاب الذين يعانون الفقر.. مدير خدمات الطلاب بتعليم سراة عبيدة، سعد القحطاني، قال إنهم سجلوا 22 ألف طالب، ولم تصرف لهم غير مستحقات حوالي ألفي طالب. حبر على ورق انتقل الفريق إلى مدارس قرى وادي المجازة، وقد ركز مدير المدرسة الابتدائية، محمد ناصر، ومدير المتوسطة، مسفر الوادعي، على ضرورة ترغيب معلمي المنطقة بالاستقرار في المدارس الحدودية من خلال زيادة نسبة النائي التي لا تتجاوز 10% إلى 50% ، وزيادة حوافز الطلاب ومتعهدي وسائل النقل الذين انسحبوا لقلة المخصصات المالية. معلم التربية البدنية، عبدالله آل قهمان، أبدى تضجره من تعدد الفرق الوزارية التي تصل إلى مدارسهم وبقاء توصياتهم حبرا على ورق. وقال نريد قرارات استثنائية فيما يتعلق بزيادة النائي، ودعم خدمات الطلاب، ومتعهدي النقل، وفتح مدارس للمرحلة الثانوية. واضطر الفريق بعد ذلك إلى الانتقال إلى مدارس مركز علب الحدودي، وعقد اجتماعا مع مدير المجمع، مسفر دريني، والمعلمين، ولم تختلف طلباتهم وملاحظاتهم عن مدارس المجازة والحاجر. وعند الساعة الثانية ظهراً عاد الفريق إلى إدارة التربية والتعليم بسراة عبيدة على أن يكملوا في اليوم الثالث جولتهم في مراكز الغايل والربوعة وجوة آل المحضي. حلول استثنائية قبل أن يلملم الفريق الوزاري أوراقه في نهاية رحلته في أغوار تهامة، أكد لهم مدير التربية والتعليم بسراة عبيدة، الدكتور هشام الوابل، أن التوصيات التي دونوها تحتاج إلى قرارات استثنائية وعاجلة. وقال لهم في اجتماع مطول إن مدارس الشريط الحدودي للبنين 13 مدرسة، موزعة على مساحة شاسعة وتضاريس صعبة على الحدود اليمنية، إضافة إلى 48 مدرسة للبنين و34 مدرسة للبنات في القطاع التهامي، وإن نسبة المدارس المستأجرة منها 50%. وأضاف الوابل: إن الإدارة التعليمية تحتاج إلى زيادة في عدد الموظفين الإداريين والمراسلين وحراس المدارس، وتوفير سيارات تويوتا بقوة 8 سلندر، مشددا على ضرورة منح الإدارة أجهزة تعمل بالأقمار الصناعية "الثريا"، وتزويد المركبات التعليمية بخدمات هاتفية مع وحدة إرسال مركزية، خصوصاً في ظل العزوف عن الإشراف التربوي من قبل المعلمات، خوفا من الانقطاع في تلك المناطق النائية. واقترح الوابل تخصيص جزء من المباني المدرسية الحكومية لتكون مقرا للمعلمين والمعلمات في المناطق البعيدة، مع توفير ما يجب من وسائل أمنية ومعيشية تجعلهم يرغبون بالاستقرار في مدارسهم.