لم تتوقع منال العبسي، وهي طالبة جامعية، أن مستحضرات التجميل التي اشترتها بسعر رخيص ستسبب لها التهابات جلدية، استدعت خضوعها لعلاج مكثف لدى طبيب أمراض جلدية شهوراً. فهي لم يخطر في بالها أن ما اشترته هو مواد مغشوشة جعلت منها "ضحية إضافية". إلا أن ما حدث لمنال لا يشكل عبرة ل"أم بيان" التي تظهر معرفتها بأنواع المستحضرات المغشوشة، وكذلك ما حدث لحفيدتها التي تسبب لها "ميك آب" مغشوش ببثور غطت وجهها. وتقول "أم بيان" بينما كانت تتسوق في سوق البلد بجدة: إن صناعة الغش التجاري غزت المملكة بعد تسرب العمالة الوافدة والمخالفة لنظام الإقامة. وتضيف: "الزمن تغير كثيراً.. في السابق كانت النساء تستخدم منتجات أصلية لا يشوبها أي خطر، ولكن مع ضيق اليد قد تلجأ فتيات مثل بناتي، إلى استخدام مكياج مقلد دون النظر إلى العواقب". وتلقي باللوم على التجار والمستوردين لتلك المواد. واللافت أن المتسوقات هنا في السوق، لا يعرفن شيئاً عن الحجم الاقتصادي لهذا القطاع الذي بلغ 6 مليارات ريال وفق إحصائية لعام 2011، في حين بلغت حصة المقلد من المستحضرات مليار ريال. فالشاريات يعرفن أن هناك منتجات غالية وأخرى رخيصة، وكثيرات منهن يقبلن على المنتجات الرخيصة. عصا سحرية ولدى وجود "الوطن" في أحد المحال اشترت "أم وجدان" علبة بودرة وميك آب مجهولي الصنع، وتعلل ذلك بأن مصروفها لا يسمح لها إلا بالشراء بهذه الأسعار، وأنها لا تفكر بأي أضرار قد تصيبها. ومثلها أيضاً تقول نهى العلمي إن المستحضرات الأصلية والمقلدة "تؤدي الغرض نفسه، لا بل إن الأسعار الرخيصة تجعلها تتسوق أكثر من منتج". أما صديقتها منال الهادي فترى أن "الغش بات يأكل يد الفقير في كل جوانب حياته وتسلل إلى المواد الاستهلاكية مثل زيوت الطعام وحليب الأطفال فكيف بمواد التجميل"، معتبرة أن "العصا السحرية تكمن في قرارات حازمة تمنع دخول تلك المنتجات وتحد من ارتفاع أسعار المواد الأصلية، فالباعة لا يأبهون لصحة المشتري، وهمهم الأكبر الربح المادي والمكسب الكبير والسريع". مقلد وأصلي بعض الباعة لا يعرفون مصدر تلك المستحضرات المقلدة ولا يعنيهم الأمر. ويقول علي خان رداً على سؤال عن مصدر السلع المعروضة من أدوات مكياج وكحل وكريمات تفتيح البشرة المعروضة وهي بأسماء ماركات شهيرة في محله: "لا أعرف مصنعها ولا يعنيني تاريخ انتهاء صلاحياتها طالما يجد الزبون مبتغاه في محلي وبأسعار زهيدة". إلا أن معرفة مصدر تلك المنتجات تجدها عند المتضررين منها وهم مستوردو الماركات العالمية، ومنهم فالح الغانمي. يقول: "تتصدر دول شرق آسيا خصوصا، قائمة بلدان الغش والتزييف للعلامة التجارية، وتشتهر هونج كونج وتايوان بتقليد جميع أنواع مواد وعلب التجميل ذات العلامات التجارية المميزة، وتصدرها إلى دول العالم بأسعار زهيدة وأقل من المنتج الأصلي، وبدرجة تقليد عالية يعجز المشري عن اكتشافها، ولا تجد الشركات العالمية إلا التحذير منها بينما الخاسر الأول هو المستورد الذي قد يلجأ إلى خفض الأسعار تماشيا مع الركود لئلا تضيع بضاعته في ظل الإغراق الحاصل للسوق بمنتجات مقلدة". مؤشر خطير وبعيداً عن الأرباح والخسائر، كيف ينظر الطب إلى المواد المقلدة وأضرارها؟ يجيب الدكتور منصور الطبيقي (حاصل على دكتوراه في الأدوية والمعالجة من بريطانيا), بالقول إن "عبارة مستحضرات تجميل تطلق على كل مستحضر يستخدم خارجياً بجسم الإنسان لغرض التنظيف وتغيير الرائحة والتعطير والمحافظة على المظهر الخارجي، والمستحضرات المقلدة التي ينمو سوقها بشكل متسارع عالمياً، تؤثر بشكل خطير على صحة المستهلكين إضافة إلى تأثيرها السلبي على اقتصاديات الشركات الكبرى المصنعة لها والبائعين لها في الداخل". ويضيف: "آثار المستحضرات المقلدة قد تكون جانبية متوسطة إلى خطيرة. وبحسب تقرير للمعهد النرويجي للصحة العامة، فإن أخطر هذه الأعراض كانت لصبغات الأكسجين للشعر التي تسبب حساسية جلدية شديدة كالاحمرار والأكزيما والحكة في فروة الرأس وتورماً شديدا في مقدمة الرأس وحول العينين. أما مرطبات بشرة الوجه والجسم فكانت أكثر المستحضرات التي استقبل عنها المعد النرويجي بلاغات بالأعراض الجانبية وكانت أغلب الشكاوى هي طفح جلدي وحكة واحمرار في البشرة وجفافها وتشققها وتقشرها، وقد تؤدي إلى احمرار العين والتهاباتها وخدوش في القرنية كما يحدث مع العدسات الملونة المقلدة وكحل العين المقلد". ويتابع الطبيقي: "الأخطر من ذلك كله، أن بعض المواد الكيميائية المستخدمة في هذه المستحضرات تعتبر مسرطنة مثل مادة "دايوكسان" المتواجدة في بعض الكريمات والشامبوهات والصابون المقلدة, ومادة ال "داي وتراي ايثانول أمين" التي تعتبر مسرطنة خصوصاً في المستحضرات التي تحتوي على مواد حافظة". ويقول: "أما بالنسبة إلى أضرارها الاقتصادية، فإن العالمية لمستحضرات التجميل تبلغ نحو تريليوني ريال سعودي أي ما نسبته 6% من الاقتصاد العالمي، و80% من هذه المستحضرات تنتج بالصين وحدها. أما في المملكة فأفادت إحصائية بأن سوق المستحضرات المقلدة في المملكة تبلغ نحو مليار ريال". ضحايا المغشوش ويؤكد استشاري أمراض الجلدية الأستاذ المشارك بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة الدكتور سمير زمو، أن عدد السيدات اللواتي يزرن عيادات الجلدية لمعالجة آثار سوء استخدام مواد التجميل ليس قليلاً، مشيراً إلى أن المستحضرات المقلدة تنتشر سريعا بين المتسوقين، وكثيرا ما تسبب المغشوشة التهابات بكتيرية للنساء وفي أماكن مختلفة من الجسم. تشوه الأجنة وتوضح استشارية الأطفال والولادة الدكتورة وفاء عبدالله أن أخطار استعمال مواد تجميل مقلدة قد يتجاوز النظر للأعراض الجانبية من الالتهابات إلى تشوه الأجنة، ومع استخدام مستحضرات مجهولة المصدر والتصنيع ذات السمية العالية من الرصاص الضار الذي يؤثر على المادة الوراثية ويتلفها ويؤدي هذا غالباً إلى إنجاب أطفال مشوهين ومتخلفين عقليا أو معرضين للإصابة ببعض السرطانات. سمية عالية ويعبر مدير عام المركز السعودي لزراعة الأعضاء واستشاري الباطنية الدكتور فيصل شاهين، عن فداحة استعمال مواد تحمل سمية عالية. ويقول إن أضرار استخدام مواد التجميل المغشوشة يتخطى الأعراض الجلدية إلى التسبب في فشل الكلى والكبد إذ تتسرب مكونات الرصاص والزئبق والصبغات إلى داخل الجلد عبر مساماته ومنها إلى الكبد والكلى مسببة تليفا للأعضاء. ويضيف: على سبيل المثال، قلم الكحل المقلد تتدخل فيه مادة "الجالينا" السوداء اللامعة وفيها تكمن المشكلة لأنها تحتوي على نسبة عالية من الرصاص السام بتركيزات عالية". ويشير إلى أن دراسات علمية حديثة أثبتت أن مستحضرات التجميل المغشوشة تحتوي على مواد كيميائية ومعادن سامة قد تؤدي إلى أمراض عدة في المستقبل، وأن جزءاً كبيراً من هذه المواد قد تّم حظر استخدامه من قبل الاتحاد الأوروبي والمنظمات الصحية في الولاياتالمتحدة الأميركية، ومعظم هذه المواد الخطرة إما مسرطنة وهرمونات تخريبية تسبب اضطرابا في إفراز الهرمونات، وإما مواد تساعد على اختراق البشرة أو مسببة للحساسية وتتراكم التأثيرات العكسية للمواد السامة على عشرات السنين وتسبب خللاً هرمونياً ثم تبدأ في تغيير تركيب الخلية وتنتقل الكيماويات إلى مجرى الدم بعدة طرق مما قد يؤدي إلى انتشار الأذية والتلف لأعضاء الجسم المختلفة مثل الكبد والكلى والجهاز العصبي والتناسلي. بدائل طبيعية وتوضح خبيرة التجميل فاتن محمد، محاذير المستحضرات المغشوشة. وتقول: كريم ترطيب البشرة له مدة للاستعمال وبعدها تفقد المواد المركبة فاعليتها وتبدأ بتشكيل كريات من البكتيريا والجسيمات الضارة بالجلد ويتشابه الوضع مع المغشوشة التي لا تتطابق مع قوانين التصنيع العالمية. وتضيف: من السهل التعرف على المواد الفاسدة والمغشوشة عبر قياس لزاجتها ورائحتها، فالمواد المصنعة وفق معايير دولية تحتفظ برونقها ورائحتها العطرية. وتنصح فاتن محمد الشابات ب"المحافظة على بشرتهن لأنها أغلى ما يملكن، والابتعاد عن كل ما يضرها من محظورات ممنوعة طبياً، واستعمال أقنعة من عصائر الفاكهة الطبيعية المتوفرة في المنزل، وتجنب وضع البودرة التي تتخلل إلى مسام الجلد وتحدث فيه بثورا وبؤرا". إجراءات و"ديمتري" وأمام هذا الواقع وشهادات المصابين وأهل الخبرة والاختصاص، ما هو دور "جمعية حماية المستهلك" و"الهيئة العامة للغذاء والدواء"؟ فرئيس "حماية المستهلك" الدكتور ناصر التويم يقر بأن "80% من المنتجات التجميلية المقلدة من عطور وكريمات وأقلام روج وكحل وميك آب وغيرها، يتم تداولها للاستخدام بين المواطنين والمقيمين"، مؤكداً رصد الجمعية لمواد مغشوشة ومقلدة تحتوي على مواد مسرطنة وضارة بالصحة. وعن دور جمعيته حيال ذلك؟ يقول التويم: هناك إجراءات تعمل عليها الجهات المشاركة مع الجمعية منها نظام "ديمتري" الذي يرصد حركة المنتج ودورته التجارية منذ تصنيعه وتداوله في الأسواق، كما تطالب الجمعية الجهات المختصة بالضبط والجمارك بزيادة الاهتمام وسرعة القبض على المتورطين في تصنيعها داخل البلاد". وأكد التويم أن جمعيته "رصدت جهات معينة تستورد مواد أصلية وبجنبها الكثير من المقلدة وتمت مخاطبة وكلاء تلك الشركات للوقوف على إدخالهم تلك البضائع المزدوجة التصنيع"، مشيراً إلى أن "حماية المستهلك" تعمل على استخدام أنظمة الهواتف الذكية للتبليغ عن أي منتجات تجميلية أو أدوية مغشوشة، كما تستخدم نظام التصديق الرقمي والاستعلام الفوري عن بعد عن أي منتج يروج للاستعمال البشري. تحليل ورصاص أما "الغذاء والدواء" فأوضح نائب رئيسها التنفيذي لشؤون الدواء الدكتور صالح باوزير أن "الهيئة" جمعت عينات لمستحضرات مكياج الوجه من مختلف العلامات التجارية، وذلك للتأكد من خلوها من المعادن الثقيلة والتلوث البكتيري، إلا أن التحليل أثبت تلوث ثلاثة مستحضرات بنسب عالية من الرصاص تزيد عن الحد المسموح به في المواصفة القياسية الخليجية، وقامت الهيئة بمخاطبة الجهات المختصة لسحب هذه المنتجات من الأسواق، ومنع دخولها إلى المملكة. وقال: لذا تنصح الهيئة المستهلكين بعدم شراء هذه المنتجات والتخلص من العينات التي لديهم، كما تنصح بالتأكد من وجود المعلومات الكافية على منتجات التجميل كاسم المصنع والمحتوى ورقم التشغيلة وتاريخ الإنتاج".