مبنى حكومي جديد وسط حي المطار القديم بجدة اصطف أمامه طابور من كبار السن والأيتام والمطلقات والأرامل الذين وضعوا أوراق معاملاتهم فوق رؤوسهم ليستظلوا بها من حرارة الشمس العالية، وبسبب هذا الزحام توقفت الحركة المرورية في الشارع المجاور للمبنى. إنه المنظر الذي يلاحظه يوميا آلاف المارين بشارع عبدالله السليمان وسط جدة، ولكن المعاناة الحقيقية لا يمكن أن يلاحظها أو يشاهدها إلا من سنحت له فرصة الدخول إلى هذا المبنى. وتمكنت "الوطن" من دخول مبنى الضمان الاجتماعي بجدة صباح أول من أمس، ونقلت مأساة المراجعين والمعوزين الذين يقصدونه بصفة يومية، وحاورت عددا من المراجعين والموظفين لاستكشاف الخلل، ورصدت صور الزحام، وخلو المكاتب من الموظفين. إن الداخل إلى المكتب يظن للوهلة الأولى أنه دخل بالخطأ إلى القسم النسائي في صالة ترحيل المخالفين بجوازات جدة، مسنات يفترشن رخام الممرات، وأخريات يقفن إلى جوار شبابيك الصندوق لساعات بانتظار موظف يجيبهن على تساؤلاتهن، وفتيات أيتام ومعوزات يطرقن مكاتب الموظفين بالأدوار العلوية التي بدت خالية تماما من أي مسؤول أو موظف، ومسنون أرهقهم طول الانتظار تحت حرارة الشمس أمام بوابة المبنى بحجة أن هذا اليوم مخصص للنساء. يقول المواطن علي الحربي "72 عاما"، والذي كان يتصبب منه العرق أمام البوابة الرئيسية للمبنى، وهو يستظل بأوراق معاملته التي جاء من أجلها: إنه منذ أسبوع يتردد على المكتب للبحث عن موظف يتسلم أوراق معاملته دون جدوى. وتذمر الحربي مما اسماه ب"التسيب" من قبل مسؤولي المكتب، وعدم اكتراثهم بمعاملات المراجعين، وخدمتهم، وقال: "بالرغم من كل هذا ليتنا نجدهم، وإذا حضر أحدهم طالبنا بالذهاب للآخر، والنتيجة لا شيء". وأكدت أم محمد "55 عاما" أنها لم تترك مكتبا واحدا للبحث عن مدير الفرع، من أجل التوقيع على معاملتها، وأنها كلما سألت موظفا عن المدير قال: إنه في الصالة يتابع أعمال المراجعين، ولكنها تؤكد أنها لم تجده، وتحاول جاهدة البحث عنه منذ 4 أيام دون جدوى. من جانبها، تجولت "الوطن" بالكاميرا في أرجاء المبنى دون أن يوجه لها أي مسؤول أو موظف سؤالا واحدا، أو يستوقفها أحد للسؤال عن سر وجود المصور والكاميرا سوى بعض المراجعين الذين كانوا يتوقعون أن فريق "الوطن" من مسؤولي الضمان، ويتساءلون عن مكتب المدير، وموظفي الصندوق، وآلية إنهاء المعاملات. بدأت جولة "الوطن" في الدور الأرضي الذي لا يمكن السير فيه كثيرا بسبب تكدس النساء، وعدم وجود ممرات للمشي بسبب افتراش المسنين لأرضية المبنى، ورصدت وجود موظف واحد يتناوب على قرابة 10 شبابيك زجاجية، وينتقل التكدس مباشرة للشباك الذي يتجه إليه وسط ارتفاع أصوات المراجعين. وفي الأدوار العلوية بالمبنى كان مكتب المدير العام مغلقا في تمام العاشرة والنصف صباحا، وكذلك مكتبا النسخ والمتابعة. والتقت "الوطن" بثلاثة موظفين خرجوا من أحد المكاتب التي كانت مغلقة، ووجهت لهم سؤالا مفاده: "هل أنتم موظفون هنا؟"، وكانت إجاباتهم بنعم، وقلنا لهم نحن من صحيفة "الوطن"، ونرغب في سؤالكم عن سبب تردي خدمات المراجعين في هذا المبنى، وعن سبب عدم وجود كثير من الموظفين، فطلبوا الدخول معهم إلى نفس المكتب، والحديث بسرية عن كل شيء، مشترطين عدم سؤالهم عن أسمائهم. وأوضحوا أنهم موظفون بالمكتب، ولكن عدم وجود خطة عمل معينة، وعدم وجود نظام محكم لتوزيع الموظفين أفقدهم قدرة السيطرة على جموع المراجعين مما دفعهم للصعود إلى الدور العلوي، والبقاء في هذا المكتب المغلق. وقال أحدهم حرفيا: "إن كل موظف في المكتب يعمل وفق ما يريد، والغياب كثير"، وأرجعوا السبب في ذلك إلى غياب التنظيم الذي تسبب في فوضى المراجعين، وشددوا على أن عدم التزام المراجعين بالمواعيد المحددة لهم بسبب كبر سنهم كان له دور كبير في خلق هذه الفوضى. وبالرغم من أن مدير مكتب الضمان الاجتماعي بجدة عوض المالكي كان قد برر ل"الوطن" قبل 3 أسابيع تقريبا مشكلة تكدس المراجعين بإجراءات الانتقال الكلي للمبنى الجديد، وأن حدوث ارتباك في إنهاء إجراءات المراجعين أمر متوقع، وأن المكتب سيشهد إجراءات تنظيمية حديثة تسهم في خدمة المراجعين، إلا أن "الوطن" حاولت الاتصال به على هاتفه المحمول من مبنى الضمان عدة مرات، لكنه كان مغلقا، واستمرت في الاتصال خلال وقت الدوام، وحتى ساعة إعداد هذا التقرير مساء أمس، ولكنه لم يرد.