لكل بيئة موضوعاتها التي تخصها، ولكل شعب تراثه وثقافته اللذان يمثلان هويته. من هذه الرؤية استلهم تشكيليون سعوديون تراثهم في نصوصهم البصرية، بمفرداته المتنوعة (رقصات شعبية، وحرف تقليدية، وتراث معماري، ولباس تقليدي، إضافة إلى العادات والتقاليد الأخرى المتوارثة) وفق أساليب متنوعة تمتد تأثيراتها إلى أذهان الشعوب الأخرى. من تجارب المُحْتَرف السعودي، نماذج لإبداعات بعض من رواده الذين استلهموا هذا التراث في بعض مناطق المملكة. بداية نجد أن الدكتور عبدالحليم رضوي رحمه الله انطلق نحو العالمية من أحياء الحجاز الشعبية، مكة تحديداً التي ولد وترعرع فيها، فرسم نصوصا بصرية تمثل التراث وتعشق الماضي بكل أشكاله وصوره وفق بانوراما تعبيرية استطاع من خلالها أن يزاوج بين الأصالة والمعاصرة، أصالة الماضي وعصرانية الفن الحديث بمدارسه واتجاهاته الفكرية المتعددة. تعبيريته جعلت شخوصه تبدو غير واضحة المعالم غير أننا حينما نقترب منها أكثر فأكثر نجدها تلتصق بالأرض وتمثل التراث. وتصور أعمال الفنان طه صبان تراث جدة القديمة بناسها وأزقتها وبيوتاتها، وما ارتبط بها من موتيفات زخرفية شعبية، مستخدماً فرشاة تعرف المكان جيداً، لكنها لا تعترف بالزمان من خلال مساحة ممتدة من البحث والتجريب أثرى الساحة التشكيلية بإبداعات فريدة وغنية وظف خلالها الطابع المعماري والزخرفي الشعبي المحلي بما يحمله من شخوص ودلالات رمزية داخل نصوصه البصرية مبتعداً عن النقل الباهت وفق ما تقتضيه هارمونية البناء الفني التشكيلي، وفق بنائية متماسكة تتداخل فيها المساحات والأشكال والخطوط. أما الفنان علي الصفار فما يزال تراث المنطقة الشرقية حاضراً في أعماله حتى وإن باتت أعماله أكثر تحرراً وتجريداً. وبرغم الاختلاف والتباين الواضح بين الشكل والأرضية في إحدى تجاربه التي تجمع بين أقلام الرصاص وألوان الماء نجده قد وفق في طريقة الربط بينهما، فاستطاع أن يشرك تأثيرات القلم الرصاص/الأرضية، إلى جانب ألوان الماء/الشكل، من خلال الخروج والدخول للوحدات الزخرفية الشعبية أحياناً، والمساحات اللونية أحياناً أخرى، بينما أخرجت تعددية المعالجة وتنوع التقنيات المتلقي من دائرة الملل إلى دائرة أوسع عنوانها البحث والغوص في أعماق الإبداع. بينما اكتسبت أعمال عبدالله حماس الأصالة والموضوعية، رغم تجريديتها، كما أننا نشم في ألوانه رائحة المكان/عسير الذي يسيطر على إبداعاته بل وتعيدنا إلى الوراء لنستحضر الزخارف الشعبية المصاحبة لعمارة عسير التقليدية، ساعدته في ذلك ممارساته المستمره للرسم والتلوين إلى جانب الدراسة الأكاديمية المتخصصة. يبهر حماس ويصدم المتلقي بأعماله عند مشاهدتها لأول وهلة، غير أن المتلقي سرعان ما يعيش عالم نصوصه البصرية بعد أن يتفحصها، ويحاول أن يحاورها ويقرأها فيجد الخطوط والمساحات والأشكال وقد تحولت إلى عناصر وموتيفات وشخوص تؤكد البيئة والتراث والإنسان، وكأنك أمام مشهد تمثيلي يتجدد بتجدد محاولاتك في الغوص داخل أعماقها. الفنان محمد السليم قبل وفاته أظهر عشقه بالمنطقة الوسطى وبصحرائها التي التصق بها وألفها حتى صاغها بأسلوب فني راق وجديد، مستفيداً قدر الإمكان من تراكمات خبراته المليئة بالعطاء، وتجاربه المدروسة، فظهر لنا ما أسماه ب "الآفاقية" التي تعد واحدة من التجارب المشرقة والبارزة في عالم التشكيل العربي المعاصر. واستطاع السليم من خلال خطوط الصحراء، ومواضيع السراب أن يجعلنا نغوص داخل رمال الصحراء بخطوات متثاقلة، تزداد تثاقلاً كلما سرنا نحو الداخل، وأمل يتضاءل كلما اتجهنا إلى ذات المكان، فخطوطه التي هي خطواتنا زاهية بداية ثم ما تلبث أن تكتسي درجات السواد شيئاً فشيئاً حتى إذا ما وصلنا أو قل اقتربنا لم نجد إلا سرابا ينتظرنا ليعلن عن استمرار الحلم.