أتذكر جيدا كيف تجرأت في العاشرة من عمري، وقفزت في بحور الشعر، واقتحمت عالم الشعراء، كانت فرحتي عارمة وأنا "أقفل" الشطر الأخير من قصيدتي البكر، وأتوق لعرضها على من هو أكبر مني؛ لإبداء مرئياته وملاحظاته، والأهم من كل ذلك أن أنال منه بعض التشجيع، كنت بحاجة إليه كوقود يدفعني للاستمرار، لكن حظي العاثر قادني وقصيدتي إلى أحدهم ويدعى "مُعلم"! والذي سرعان ما استل قلمه الأحمر من غمده، وانهال على قصيدتي الصغيرة تشطيبا وتعديلا وكأنه مصحح لغوي لمقال سينشر غدا على صدر صحيفة محلية، ولم يكتف بذلك سامحه الله بل واصل في طغيانه بأن انهال على صاحب القصيدة المسكين توبيخا وتقريعا، بحجة أن هذه "الشخابيط" لا ترقى لمسمى قصيدة بل عصيدة، فأجهز بفعلته تلك على مشروع شاعر صغير كان ينقصه بعض الدعم المعنوي قبل أن يشب عن الطوق ويقرض الشعر، بل وقد يحمل بيرق شاعر المليون يوما ما، أو ربما ينافس ويفوز بلقب أمير الشعراء ويمثل بالتالي تهديدا حقيقيا للشعراء الموجودين على الساحة، بهكذا نقضي على كثير من مشاريع النجاح، حين نقتل الهمم الصغيرة لدى أطفالنا بإهمالنا وتعاملنا مع أفكارهم بتحقير أو تهميش أو حتى تطنيش! إن أكثر ما يغيظني حقا أن من ذهبت إليه كي يقيّم قصيدتي لم يكن بشاعر، وأجزم بأن معلوماته عن الشعر كمعلوماتي عن الطبخ!، ولكنها "قشارة الحظ" بالتأكيد هي من قادتني إليه! وعلى "طاري" الطبخ فقد أهدتني السيدة "دونا" مؤخرا قطعة من البسكويت الطازج أثناء ذهابي لاصطحاب ابني من روضة الأطفال، اعتقدت في البداية أن مديرة الروضة تعمل على تدليل الآباء بإطعامهم البسكويت مقابل شفط جيبوهم بالرسوم الدراسية نهاية كل شهر! واكتشفت على الفور بأنني قد أسأت الظن حين أخبرتني السيدة "دونا" بأن قطعة البسكويت لم تكن سوى من صنع أنامل ابني الصغير!، هو من خلط المقادير ثم عجنها ثم خبز البسكويت في الفرن، أكلت نصف القطعة وخبأت نصفها الآخر لنصفي الآخر في المنزل، كي تشاركني هي الأخرى طعم الزهو والفخر بطباخنا الماهر الصغير، ومن يدري فقد يبرع هذا الصغير في فنون الطبخ عندما يكبر؟ ومن نحن حتى نحصر أحلام أطفالنا بين الطب والطيران والهندسة فقط! هنيئا لك بُني، فقد وجدت "دونا" الشقراء تُنقب في قدراتك وتصقل موهبتك، بينما ابتلي والدك في صغره بمن قصم ظهر قصديته العصماء وأجهز على موهبته!.