تبكي العاصمة السورية دمشق شوارعها ومبانيها، إذ لم تعد اليوم كما كانت في الأمس. فدمشق وهي أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ ومعروفة بأبوابها السبعة وأزقتها ومآذنها وتغنى بها شعراء وزائرون وباحثون، أمست تنام باكرا بعدما كانت تطيل السهر ولا تهدأ شوارعها من الضجيج، والسيارات. ومن زارها قبل أسابيع لن يعرف كيف يتجول في شوارعها ومن أين يدخل إليها وكيف يخرج منها. ولن تكون الخيارات متاحة أمامه، بل سيكون مجبرا على سلوك الطريق المفتوح فقط. ومن يعرف أن مشواره سيستغرق ساعة، عليه أن يضيف إليها ساعتين. ومن يعطي موعدا لن يحدد ساعة وصوله لأنه لا يعرف موعدها ومتى ستكون، ومن يتأخر في الوصول إلى بيته لا أحد يلومه ولكن الخوف والقلق يسيطران على ذويه. حواجز العسكر وكل ذلك بسبب كثرة الحواجز العسكرية المنصوبة في مختلف شوارع دمشق الفرعية والرئيسية والطرقات المسدودة بحواجز إسمنتية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تكاد الكتل الإسمنتية تواجهك أينما أدرت بوجهك في شوارع العاصمة ومفارقها وأمام الدوائر المهمة وفي الساحات العامة وغيرها. ويعتبر دوار المحافظة في بوابة الصالحية المعروف بساحة يوسف العظمة وكذلك ساحة السبع بحرات قرب مجلس الشعب، من أكثر المناطق التي شهدت في الآونة الأخيرة حواجز إسمنتية تم تركيبها على علو مترين لتطويق مبنى المحافظة وسد كل المنافذ التي تؤدي إليه، مما أحدث عرقلة كبيرة في المرور ووسط رقابة أمنية مشددة تشمل تفتيش المارة دون استثناء نساء وأطفالا ومسنين، خوفا من أي طارئ قد يحدث في هذه الساحة المهمة. وليست هاتان الساحتان الوحيدتان اللتان شهدتا تركيزا أمنيا، بل هناك ساحات أخرى وطرقات كثيرة إذ لا تكاد تدخل مدينة دمشق أو تخرج منها إلا وتعبر من أمام نحو 15 حاجزا، وتصطدم بالحواجز الإسمنتية في كل مكان. اختناق مروري كل هذه الترتيبات الأمنية، زادت من زحمة المرور واختناقات السير حيث تعتبر دمشق أصلا من أكثر العواصم ازدحاما بسبب شبكة الطرق القديمة التي لم يطرأ عليها أي تجديد، وزادت من نسبة التلوث التي تعتبر مرتفعة جدا قياسا لكل بلدان العالم، كما سببت تأخيرا واضحا في وصول العاملين والطلاب إلى دواماتهم، فيما تتسبب الحواجز المنصوبة على مداخل المدينة في منع الناس من الدخول إلى العاصمة كلما كان هناك حراك في مناطق الريف أو المدينة. دمشق النائمة دمشق التي كانت تعشق السهر ويحلو لروادها السير في شوارعها وأسواقها، تغفو اليوم باكرا على مضض بسبب الكوابيس التي تقض مضاجعها، خصوصا أن جبل قاسيون الذي يحيط بها كالمعصم ويسكن فيه حوالي نصف مليون عائلة، أصبح مصدر قلق بسبب أصوات قذائف المدفعية التي تنطلق منه لتدك أحياء القدم ونهر عيشة والسبينة والحجر الأسود وغيرها من الأحياء. ومع انحسار شمس النهار وحلول الظلام تبدو مدينة دمشق في غالبية أحيائها، كأنها مدينة أشباح خالية من الناس إلا من قلة عائدين إلى بيوتهم. سلع ممنوعة كثرت الحواجز على مداخل مدينة دمشق، أثرت على دخول السلع الزراعية والحيوانية إلى أسواق الهال الرئيسية وحتى غالبية أسواق المدينة ومحلاتها مما يؤدي إلى ارتفاع أسعارها. ويروي أبو محمد وهو تاجر في سوق الهال، معاناته من هذه الحال بقوله: توقف عملنا بشكل كبير جدا، غالبية المحاصيل الزراعية تأتينا من خارج دمشق من درعا وحماة وحلب ودير الزور وريف دمشق وكلها مدن ساخنة ولا يمكن إخراج المحاصيل منها بواسطة الشاحنات الكبيرة والصغيرة، لتعرض حياة السائق للخطر والحمولة للضياع بسبب النهب أو السرقة". وأضاف: "ما يأتينا هو أقل من النصف بكثير مما كان يأتي إلى أسواق العاصمة وبالتالي تسبب هذا الوضع في غلاء أسعار تلك السلع، وأيضا عدم كفايتها لحاجة المواطنين". وأبدى أبو علي سائق شاحنة متنقل بين المحافظات، تذمره من هذه الحالة التي تسبب توقف عمله حيث كان في السابق يذهب إلى درعا ويعود منها أكثر من مرتين يوميا وإلى المحافظات الشمالية مرة يوميا، أما الآن فهو بدون عمل وبالكاد يحصل على حمولة مرة في الأسبوع ولا تفي أجرتها قيمة المازوت، وبالتالي لا تكفي لمعيشة عائلته المؤلفة من سبعة أفراد". حليب نادر ومن أكثر السلع تأثرا بالحواجز وقطع الطرق، مادة حليب البقر التي تأتي من ريف مدينة دمشق حصرا، وتوزع على البقالات غالبا في مساء كل يوم، وهناك من يصنع منها الجبن واللبنة واللبن (زبادي)، إلا أن هذه السلعة باتت نادرة إذ يتطلب الحصول على الحليب الانتظار أياما والتسجيل على الدور لدى البقالات وبائعي الحليب ومشتقاته. ويروي سعد الدين صاحب محل لبيع الحليب وتصنيع الألبان والأجبان في أحد أحياء دمشق قائلا: "هناك صعوبة لدى من يسوقون الحليب ويأتون به إلينا من الأرياف المجاورة حيث يحضرون ببراميل بلاستيكية بشاحنات صغيرة، ونظرا لخطورة الطرق وكثرة الحواجز والهجمة المسعورة على ريف العاصمة لم يعد الحصول على الحليب أمرا سهلا على الإطلاق، وبالتالي ازداد سعره وارتفعت معه أسعار باقي مشتقاته بشكل غير مسبوق وتأثرت مصلحتنا نحن كبائعين وأعرض الناس عنها لغلاء أسعارها". المؤنة في خبر كان يوجد أكثر من عشرة أسباب لعدم إقبال الناس على عمل "المؤنة" (تخزين مواد غذائية) هذا الموسم قبل فصل الشتاء وذلك لأسباب كثيرة تعزوها السيدة أم حسان إلى غلاء الأسعار الفاحش وعدم وجود الخضراوات الصالحة للمؤنة وكثرة انقطاع التيار الكهربائي والخوف من المجهول "كل هذه الأمور تجعلنا نمتنع عن عمل المؤنة مع أنها اقتصادية في الشتاء بالنسبة للعائلات الفقيرة، ولكن هل من المعقول أن يكون كيلو باذنجان المكدوس في عز موسمه أكثر من 40 ليرة سورية؟ كما أن البندورة (الطماطم) لم تنزل عن ال30 ليرة والفاصوليا بلغ الكيلو 150 ليرة.. وقس على ذلك". وتضيف: "عندما نسأل البائع عن السبب يقول لنا لا يوجد سوق للخضراوات بين المحافظات بسبب قطع الطرقات والحواجز ومخاطر الطريق". الظلم بعينه وعلى الرغم من أن هذه الحواجز هي التي تمنع أو تسمح للمواطنين بالعبور أو الخروج من العاصمة، إلا أن الموظفين والعمال هم من يدفع الثمن من أجورهم حيث يعتبر غياب الموظف بلا أجر ومن يتغيب لأكثر من خمسة أيام يكون موضع مساءلة شديدة وقد يتعرض للفصل من الوظيفة حسب بلاغ رئيس الحكومة الذي شدد على الالتزام بالدوام وتناسى تلك الحواجز والأحداث الأمنية والحراك الساخن في معظم المناطق السورية. وفي هذا الخصوص يقول قاسم الموظف في إحدى الدوائر الحكومية: كل عدة أيام يتم قطع الطريق الذي يوصلنا من الحي للعمل ويقوم الحاجز بإعادتنا إلى منازلنا ولا نستطيع أن نجادل أو نطلب من الحاجز إثبات أنهم هم الذين أعادونا إلى بيوتنا، وفي اليوم التالي نفاجأ باعتبارنا "غياب غير مأجور" ويخصم من راتبنا الشهري. وتؤكد السيدة حنان الأمر نفسه بقولها: أسكن في إحدى ضواحي دمشق وكلما "دق الكوز بالجرة" يمنعونا من الخروج من مكان سكننا، وفي أكثر الأوقات أضطر لتبرير غيابي بتقارير طبية كي لا يتم قطع مبالغ كبيرة من الراتب الذي نعتاش منه. أما عبدالرحمن فيقول والغصة في حلقه، إن المشكلة الأكبر في سبب غيابنا تلك الحواجز الكثيرة على الطريق ومنها ما يمنع وصولنا إلى العمل وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد فهناك من يروج مقولة أن كل من يتغيب عن عمله لا بد أن يكون مع المسلحين وهذا هو الظلم بعينه. .. والطيور تهجر سماءها خوفا من "الميج" هجرت طيور "السنونو" والحمام سماء دمشق التي طالما تميزت سماؤها بها وبزقزقتها اللطيفة عندما تتجمع على شكل أسراب لتهجع إلى أعشاشها بين المنازل. فهذه الطيور كانت جزءا من مشهد المدينة بعدما تآلفت مع ضجيجها وتلوث هوائها، ولم يكن يدفعها شيء إلى هجرها حتى جاءتها طائرات الميغ بهديرها ودوي صواريخها. ولم يجد السبعيني "أبو ماجد" كلمات يصف بها حال المدينة التي أضحت أكثر حزنا من قوله "حتى السنونو هرب يا بني ولم نعد نراه يزين سماء المدينة كل مساء وأيضا حمام (الستيتي) لم يعد يتواجد بكثرة كما في السابق بسبب كثرة أصوات المدافع والضجيج الناتج عن الطائرات التي لا تهدأ والقصف المتواصل على بعض أحياء المدينة حيث الفزع يصيب البشر والحجر والطيور ولا يستثني أحد". وفي مكان آخر لمحنا عدة أشخاص وهم يراقبون طائرة الميغ وهي تنخفض إلى أدنى مستوى لها وترسل صواريخها باتجاه أحد الأحياء من جهة الشرق لمدينة دمشق، عماد استغرب وحشية الطيار الذي يضرب بلا هوادة قائلا لماذا لا توجه هذه الحمم المسعورة على إسرائيل، وأضاف سمير كنا نستغرب في البداية طلعات طائرة الهيلوكبتر، أما الآن فأصبح القصف بطائرة الميغ "على عينك يا تاجر" على المدنيين في المدن والأحياء، وتدخل رجل لم يشأ أن يفصح عن اسمه بل عرف نفسه بأبي عمر الميداني فقال: شهدت أحداث حرب تشرين عام 1973 ولم تكن لا الطائرات السورية ولا طائرات العدو الصهيوني تحلق بالجو بهذه الكثافة وكل هذه المدة، ومنذ شهر ونيف وطائرات الميغ تستهدف الجميع وقبلها الطائرات العمودية، ولم تسكت المدافع لا ليلا ولا نهارا عن القصف وهذا هو حالنا ومن لم تصبه القذيفة يتألم أكثر على من وقعت عليه، فحالنا واحد. هكذا باتت سماء دمشق مرتعا لطائرات الميغ التي تجوب المدينة والريف ليلا نهارا وترسل حممها الطائشة ولا تفرق بين كبير وصغير وتهدم البيوت والمنازل والمزارع والمعامل وتدمر حتى البنى التحتية، وعندما يسكن الليل ويلتحف بسواده تبدو أصوات قذائف المدفعية أكثر زلزلة وهي تدك المناطق والأحياء من على جبل قاسيون والمرتفعات المحيطة بدمشق. ليست هذه وحدها من يعكر صفو دمشق ونتيجة كل ذلك القصف اليومي المتواصل، ولا تكاد تلتفت في أي جهة إلا وترى ألسنة الدخان الأسود والأبيض من حولك مما يزيد الطين بلة، ويعمق جراح المأساة التي يعيشها المواطن السوري.