أتذكر بوضوح ذلك اليوم من عام 1986، عندما قرأت تلك الدراسة الكبيرة بعنوان: «تحليل مسحي لقطاع غزة» التي أصدرتها الباحثة سارة روى، والتي شكلت جزءاً من (مشروع معلومات الضفة الغربية)، ذلك التحليل لممارسات الاحتلال الإسرائيلي الذي قام به ميرون بنفينيستى الذي كان يشغل منصب نائب رئيس بلدية القدس السابق. عندما صدرت تلك الدراسات عن غزةوالضفة الغربية حاول الكنيست تقديم بنفينيستى وروى إلى المحاكمة بتهمة مساعدة «تنظيم معاد»، أي منظمة التحرير الفلسطينية. إلا أن البرلمان تخلى عن هذه المحاولة، على الأرجح خوفاً من أن تؤدي المحاكمة إلى تركيز الأضواء على الدراسات. وعلى رغم أنني لم ألتقي بنفينيستي إلا مرة واحدة - في 1989 كما أعتقد - فقد أثار انتباهي ذلك التناقض لديه، وكونه من جهة صهيونياً متحمساً عميق الإيمان في حق اليهود في استيطان فلسطين كلها ضمن حدودها التاريخية، ومن جهة ثانية متفانياً شديد التفاني في تقصى حقيقة ما يفعله الاحتلال الإسرائيلي في غزةوالضفة الغربية. على أية حال، أنجزت الباحثة سارة روى الدراسة الخاصة بقطاع غزة، وواصلت منذ 1986 كتابة الدراسات والتقارير عن القطاع، حيث نشرت أخيراً مقالة تفصيلية مؤلمة عن أوضاع القطاع عام 1993. وظهر مقالها هذا في العدد الأخير من مجلة «ميدل إيست جورنال» الذى قدمت فيه تقييمها لتأثير الحصار المستمر الذي تضربه إسرائيل على القطاع، وكذلك التأثير في المدى القصير لإعلان المبادئ المشترك على اقتصاد القطاع. ولما كنت لم ألتق بسارة روى سوى مرة واحدة من قبل، قررت تجديد التعارف بهدف الحصول على معلومات مباشرة من غزة، إذ عادت من هناك في أواسط فبراير الماضي، وكذلك لكي أعرف مزيداً عن شخصيتها. فقد كنت متشوقاً لمعرفة سبب اهتمام أمريكية مثلها بمنطقة نسيها ليس القليل من العرب فحسب، بل كثير من سكان الضفة الغربية والإسرائيليون، بعدما اعتبرت منذ زمن قضية (ميؤوساً منها). وفى رأيي أن غزةوالقدس، هما من بين المفاتيح الأساسية للمستقبل الفلسطيني: القدس، كما أوضحت في مقال سابق، بسبب الحرص الذي يبديه الإسرائيليون على توسيع أعمالهم الاستيطانية داخلها، وغزة لأنها تمثل جوهر القضية الفلسطينية، لكونها ذلك الجحر الجهنمي المكتظ باللاجئين المعدمين المتعرضين دوماً للاضطهاد، الذين كانوا رغم ذلك، ولا يزالون، دينامو المقاومة والنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي. فلا ينبغي أن ننسى أن غزة هي المكان الذي انطلقت منه الانتفاضة أواخر عام 1987، وهي المكان الذي يبدى نحوه زعماء إسرائيل دوماً مشاعر الكره والازدراء ومن بينها قول رئيس الوزراء إسحاق رابين قبل نحو شهر: «أتمنى لو يبتلعها البحر»، وبالطبع فإنها الآن مع أريحا، المكان الذي سيبدأ الحكم الذاتي الفلسطيني المفترض منه. وهكذا فإن فهم الوضع على حقيقته في غزة يعني فهم التحديات الحقيقية أمام فلسطين. وقد فوجئت في الأيام التي قضيتها أخيراً أتبادل الحديث مع سارة روى (39 سنة) بأنها ليست يهودية فحسب، بل إن والديها من الناجين من «المحرقة» التي ارتكبها النازيون ضد اليهود خلال الحرب الثانية. وقد عاشت أمها مع أختيها فترة في «جيتو» مدينة لوج البولندية، وكذلك في معسكر آوشفيتز للإبادة، على حين كان والدها ثاني اثنين فحسب من يهود مدينة تشيلمنوف البولندية نجيا من الكارثة، وهي المدينة التي تدور فيها أحداث فيلم «شوا» المعروف للمخرج كلود لانزمان. 1993* * ناقد وأكاديمي فلسطيني/ أمريكي «1935 - 2003»