الاحتلال بأبشع صوره هو ذلك الذي يتسلل إلى أعماق المجتمع المحتل، حيث لا يقتصر على السيطرة الجغرافية فحسب، بل يمتد ليغير قيمه ومبادئه من الداخل. إنه احتلال يمارس عملية غسيل دماغ، سواء كان ماديًا أو معنويًا أو سياسيًا، يجعله يتبنى إيمان المحتل ويلتزم بأجنداته. في هذه الحالة، يتحول المجتمع إلى كائن مستلب، يفقد هويته ويغوص في مشروع لا يخصه، مما يجعله فريسة لعقيدة غريبة تسعى لإخضاعه وابتلاعه بالكامل. وهذا يتجلى في خطاب نتنياهو بشأن تهجير الشعب الفلسطيني في رسالة لكل العرب والمسلمين مفادها لا بد لكم أن ترضخوا لي، يبدو أن نتنياهو يريد أن يحتلنا فكريًا وثقافيًا، نعم لك أن تتخيل أن تزرع نبتة غريبة وخطيرة تحاول بعنجهيتها أن تلتهم ليس فقط ما يجاورها، بل تريد التهام الأخضر واليابس في الحقيقة. أعجبني بيان وزارة الخارجية السعودية وهو يتحدث بلغة حقوقية (وأن الشعب الفلسطيني صاحب حق في أرضه وليسوا دخلاء عليها أو مهاجرين إليها يمكن طردهم متى شاء الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، ويختم الخطاب أن حق الشعب الفلسطيني الشقيق سيبقى راسخًا ولن يستطيع أحد سلبه منها مهما طال الزمن..). المملكة في خطابها أدركت مدى خطورة مثل هذه التصريحات التي لا تستهدف فقط الشعب الفلسطيني بل تستهدف جميع العرب والمسلمين ويتجلى خطرها - في نظري - في قلوب ونفوس وعقول تمحي من وعيها ثقافة وتستبدلها بأخرى هي خسارة ثقافة وخسارة تاريخ بل أكثر من ذلك، إنها خسارة أرض وخسارة وطن. يبدو أن موقف المملكة أزعج بنيامين نتنياهو حيث صرح تصريحًا غريبًا وعجيبًا وانفعاليًا في إحدى المقابلات «إن السعوديين قادرون على إنشاء دولة فلسطينية في السعودية، فهم يملكون الكثير من الأراضي هناك». نعم هي نكتة ساخرة وسخيفة كرد فعل لموقف المملكة الصارم تجاه إسرائيل، وأن موقفها ثابت ودائم وحازم في مسألة حق الشعب الفلسطيني. وأستذكر هنا كلمة الملك سلمان في افتتاحه لأعمال القمة الإسلامية ال14: «نرفض المساس بالقدس الشريف، وفلسطين قضيتنا الأولى وستبقى قضيتنا الأولى». هذا هو الموقف المطلوب من القادة العرب في إعلاء اسم القضية الفلسطينية في كل المحافل الإقليمية والدولية، رغم تحذلق المتحذلقين، ورغم تكسير المجاديف وتثبيط الهمم، بأحاديث المهزومين وعبارات الضعفاء من قبيل «وما فائدة ما تفعلون، أنتم فقط تتكلمون»، أو عبارة «كل ما تأتون به لا تأثير له». لا يعي هؤلاء أن المساندة الإعلامية والدعم المالي والتأييد النفسي، هو صورة من صور المقاومة وتسجيل موقف هم يريدون احتلالنا فكريًا وثقافيًا بالصمت، هم يريدون زرع فكرة صهينة الفلسطينيين ومن ثم زرع فكرة صهينة العرب والمسلمين. ختامًا نحن هنا لا نحمل شرف الصمت، ومن لا يريد أن يُعلي صوتًا أو يفعل شيئًا فليصمت ويكفنا شره، ومن يريد أن يُعلي صوتًا ويسجل موقفًا فلا يُعنْصر القضية ويطيفها كما يريدها المحتل الصهيوني.