على موقع الحرة 12 نوفمبر 2024 كان هذا العنوان: («لن تكون هناك دولة» تصريحات وزير إيراني تكشف كارثة قادمة) خلاصته: قلق بعض رجالات السياسة في إيران خلال العقود القادمة من تحول دولتهم إلى (بلد العجائز)، وما شدني إلى هذا الخبر برزخ من التساؤلات وقع في دماغي ما بين آراء علم النفس التي أوردها صاحب كتابي (الإنسان المقهور) و(الإنسان المهدور)، وتجربة كون كالهون مع الفئران حيث انهارت سلوكياً عندما انتقلت تدريجياً من مدينة اليوتيوبيا المثالية للفئران إلى ديستوبيا مرعبة، وما بين إحصائيات وفق معطيات مثلاً (البنك الدولي) في مجالات مختلفة، راجع نموذجها في مقال: (لماذا تعتبر المراهقات عنصراً أساسياً في التنمية العالمية؟ الجواب في خمسة رسوم بيانية) لكل من الباحثتين: آنا تابيثا بونفيرت وديفيانشي وادوا. هذا المزيج من العلوم بمختلف أنواعها، وقاعدة البيانات الإحصائية ونواتجها من رسوم بيانية ربما هي ما يصنع (مثقف العصر الحديث)، ولهذا قد يعاني خريج كلية الشريعة مثلي في إعادة إنتاج كينونته الفكرية القائمة على (تراث فقهي) المعتبر منه والأقرب إلى زمنه يتجاوز السبعة قرون للخلف/للوراء!! واستيعاب هذه المسألة في بعدها التاريخي وانعكاسها على عقلي أورثني صدمة فجائية أقرب لذعر الطفل من صفعة القفا، حتى أصبحت أرى حقيقة الخوف على (حرية الفكر) تكمن في كاميرا لمخرج أفلام رعب يصور (رجل إكليروس أقرب لملامح راسبوتين!! يمسح بيده على رأس طفل!!!) إن الطفل يكبر... ودلالتها مخيفة ومرعبة لمن استمرؤوا يد الإكليروس على رؤوسهم حتى سن الكهولة، فإما أن (أقاوم التغيير) بصلف (داعش والقاعدة) أو أعيش في فضاءات عقلية أقرب للفن السوريالي لكن بحروف وكلمات وكتب، فمن مجلدات (روضة الناظر وجنة المناظر) لابن قدامة كأحد مقررات دراستي بكلية الشريعة، إلى مجلدات (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) لحسين مروة كأحد مقررات التثقيف الذاتي قبل ربع قرن، وصولاً إلى فضاءات أرحب وأرحب. تخيل أن يستقبل جوالك في عام 2024 سؤال صديق على الواتس: (لماذا تخلينا عن نص صريح صحيح لا خلاف فيه عند التداين والاقتراض الوارد في «آية الدَين»؟ ولم نشدد فيه مثل تشددنا في مسائل خلافية مثل «الحجاب، الغناء، شرب النبيذ»). هل تلزمه بعقل فقهاء ما قبل سبعة قرون، أم تدخل في الزمن الحديث وتسأله مباشرة: هل قمت في حالتك بتفعيل نظام «ناجز» وتطبيقه الإلكتروني فهذا كاف واف، ثم تحاول رفع يد الإكليروس عن رأس صديقك الذي تجاوز عقده الخامس، وتدخله الزمن الحديث فتذكره بقوله تعالى: «والدواب لتركبوها» لا تعني تحريم ركوب السيارة والطائرة والقطار، وليس فيها أي (اعتراض على حكمة الله في مخلوقاته) مما قد يضطره إلى حياة الآميش دون أن يشعر!! أعود إلى تضايق النخبة الإيرانية من النتائج الإحصائية للخصوبة وعدد المواليد في إيران، متجاهلين أن جهاز السافاك في عهد الشاه، أو الاطلاعات في عهد الثورة يمكنهما فعلاً ممارسة القمع بشكله الخشن، إضافة إلى ممارسة القمع الناعم عبر المناهج التعليمية وفق «نظرية لوي التوسير المفصلة حول ذلك»، أقول بإمكان الأجهزة الحكومية بنوعيها الخشن والناعم تطويع حتى (الأسرة) لتصبح جزءاً من أدوات القمع الناعم على أبنائها لصالح النظام الإيراني، لكن ما لم يدر في حسبان أحد، أن ترسبات هذا النوع من السياسة في إدارة الشعوب (إيران ليست شعباً واحداً بل إثنيات ولغات متعددة) أقول: يورث هذا التوجه نوعاً خطيراً من المقاومة الشعبية (النفسية) يكاد يتطابق مع سلوك (الحيوانات تحت الأسر) إذ تفقد إمكانية (الإنجاب) مما يضطر بعض حدائق الحيوان إلى الأساليب المختبرية لتفادي (الانقراض)، فحتى (فقدان الأمل) سيظهر في سلوك الشعوب سلباً. مؤشر الخصوبة المرتفع ليس بالضرورة إيجابياً أيضاً، ولهذا الأرقام خداعة ومراوغة في أحيان كثيرة، فقد تستبطن انتهاكات لحقوق الإنسان (معدل زواج القاصرات مرتفع)، أي إن ارتفاع الخصوبة قائم على أكتاف (القاصرات) وليس على أكتاف (زواج راشدين) مؤهلين لتكوين أسرة ورعاية أطفالهما بما يتجاوز (مفهوم الرعاية الرعوي/ توفير الغذاء والمسكن) إلى مفاهيم (التربية الحديثة) في ثنائية (الحرية والكرامة) ليكون المواطن مؤهلاً للقيام بواجبات الوطن ومؤهلاً لاستيعاب حقوقه كمواطن بلا طفولة عقلية عاجزة عن إدراك أدنى مستويات المواطنة في واجب (حفظ المال العام) ولو في الامتناع عن كسر غصن في حديقة عامة، مع ما يقابلها من حقوق. تشعبات الفكرة ما بين أطروحات علم نفس الشعوب، وعلم البيانات والإحصائيات المترتبة عليها وأثر ذلك على (عقل تراثي) كان في ما قبل (الربيع العربي) هو العقل النموذجي للاستبداد، يكفي أن يسمي (التضخم الاقتصادي) باسم آخر مثل (قلة البركة)، وأن يسمي (الفساد والرشوة) باسم آخر مثل (شفعة لا بأس بها) فإن تعرت الشفعة أكثر فلا بأس من رقعة باسم (إقالة ذوي الهيئات عثراتهم)، وقد اكتشف العالم أن الأرقام (الحقيقية) لا تكذب، وأن تزييف الوعي، واستبداله بمفردات تراثية (خارج التاريخ) سيفجر الأوضاع بشكل فجائي يجعلنا نقول بثقة: إن أجهزة الأمن بأنواعها في بلاد (العسكريتاريا العربية) عجزت عن اكتشافها، فقد أصابها هي أيضاً ما أرادته لشعوبها من (زيف الوعي) بواقعها، أي إنها كذبت على شعوبها، ثم صدقت هي كذبتها، فكانت النتيجة ما رأيناه في 2011م ولا تزال تعيشه بعض هذه البلدان حتى الآن من جروح متقيحة وملتهبة وبلدان تتماثل للشفاء ببطء. بالنسبة لنا، يكفي أننا مارسنا مع (الوباء الصحوي) حفاظاً على (الصحة العقلية) للمجتمع ما مارسناه مع (وباء كوفيد) من إستراتيجية، فلا ينجرف المجتمع نحو الشعارات (الأممية) لينبت فطر داعش والقاعدة والحشد الشعبي، كما ينبت الفقع في البرية، بل كان الارتقاء بالوعي العام تجاه (الوطن ومقدراته ومكتسباته الحضارية) التي لن تأتي أبداً بالقفز على الواقع الذي تم تأهيله من وجهة نظري منذ 2005، وفي المقابل استطاعت الدولة حصاد (التأهيل بمختلف المستويات) في زمننا هذا لوجود الثلاثي الأهم في معادلة كلاين لقوة الدولة، وهي: (الإرادة السياسية، الذهنية الاستراتيجية، التخطيط الاستراتيجي) ومن يعرف معادلة كلاين في قوة الدولة يدرك أهمية هذا الثلاثي المشار إليه، فبعض دول (العسكريتاريا العربية) مثلاً لم ينقصها بقية أركان المعادلة وهي: (سبع أركان بعضها ثابت وبعضها متغير: تاريخ، ثقافة، عدد سكان، جغرافيا، قدرة اقتصادية، قدرة عسكرية، قدرة تكنولوجية)، لكن تم توجيه الإرادة السياسية نحو (داء العظمة) المزمن الذي عاشه مثلاً صاحب عبارة (من أنتم؟ من أنتم؟!) في خطابه الشهير متوعداً بالتطهير (بيت.. بيت.. زنقة.. زنقة)، حتى عرفهم للأسف بشكل (تراجيدي/مأساوي).