في احتفاء بتعيين ذلك الشاب في وظيفة أحلامه، بدأ والده وإخوته الكبار، برسم خارطة الطريق أمامه، بكيفية استفادته القصوى من الراتب الشهري الذي سيهطل كالمطر على حسابه البنكي كل شهر، وأن عليه البدء فورًا بالبحث عن «بنت الحلال»، ثم كيف يسيّر ظروفه بمركبته التي «تمشي الحال» دون أن يقع في مصيدة التمويل التأجيري. ثم كيف له أن يبدأ ببناء منزل من سيخلفهم من بنت الحلال تلك وكيف وكيف... ثم سرد له إخوته قصصهم المحزنة بتعاملهم بغباء مع رواتبهم، وكيف أن كلا منهم يتمنى لو تم تعيينه للتو، لكيف استثمر هذا المرتب بالريال الواحد. ثم بدأوا في سيل التحذيرات والتنبيهات والإنذارات الصفراء والحمراء من مغبة الوقوع في الدين ولو كان تمويلا من البنوك التي تزيد الطين بلة بمنتجات أخرى كالبطاقات الائتمانية وغيرها. ثم ذكر بعضهم كيف كان يضطر ليستدين ليجد قوت أطفاله في مرحلة ما من حياته، بسبب أنه لم يجد من يرسم له خارطة الطريق المثالية للاستفادة من مرتبه، وأن أخوهم الأصغر هذا «حظه يكسر الصخر» بأن سمع كل هذه الخلاصات التي طوت له خبرات السنين في ساعات. هذا الشاب حاليًا وبعد بضع سنوات من تلك الجلسة ترك الوظيفة بسبب أن الراتب يصرفه بالريال الواحد على الديون بمختلف مسمياتها، فيستقطع منه قسط جهاز جوال قد تلف، وقسط سيارة تم سحبها من جهة التمويل، وقرض زواج دون وجود زوجة «إلخ إلخ إلخ، فأصبح أسوأ حالًا من إخوته الذين كانوا ينصحونه في البداية. السبب بسيط.. في تشريح الدماغ توجد مساحة لا تتجاوز 10 % من المساحة الإجمالية تسمى بالعقل (الواعي)، وهي ما تجعلنا نخطط ونحلل ونتعلم وهكذا، ولكن المساحة المتبقية في الدماغ فأغلبها للعقل (اللاواعي)، وهو ما يحفظ ما تكرر أمام الواعي ويقوم بها دون وعي. مثال بسيط قيادة السيارة لأول مرة في حياتك أنت تقودها بالواعي فتجدها صعبة جدًا وتستغرب كيف أن كل هؤلاء البشر يستطيعون قيادة مركباتهم، ولكن ما إن تكرر القيادة خمس أو ست مرات حتى تكون سهلة في كل مرة كونها بدأت تتحول من الواعي إلى اللاواعي. فتجد نفسك بعد بضعة أشهر فقط تقود مركبتك 100 كيلو ونفذت عشرات الآلاف من عمليات الضغط على الفرامل وتحريك المقود وغيرها وأنت «تسولف لصاحبك من رحلتك لجورجيا» كونها تدار من اللاوعي وهو أكبر قدرة وتأثيرًا بأضعاف مضاعفة عن الواعي. ببساطة لو كان هؤلاء الإخوة وهذا الأب ينفذون فعليًا ما كانوا ينصحون به أخاهم الأصغر أمامه منذ طفولته، لنشأ على هذا، ولو لم يقدم أحد منهم له النصح، فالأب الذي يصلي أمام أطفاله ينشأ أطفاله يصلون والعكس صحيح، ولو ضربهم ألف مرة بعدها ليؤدوا الصلاة لما قاموا للصلاة إلا لإسكاته فقط دون تطبيقها فعليًا، كونها لم ترسخ لديهم في اللاوعي. ما أريد قوله يا عزيزي المربي.. أطفالك وأبناؤك وبناتك المراهقون يقلدونك ب 90 % من تصرفاتك، فأكثر من عاداتك التي تريد أن يكبروا عليها وثق بأن (كلامك مفهوم بنسبة 10 % فقط).