وزير الصناعة من قلب هيئة الصحفيين بمكة : لدينا استراتيجيات واعدة ترتقي بالاستثمار وتخلق فرصا وظيفية لشباب وشابات الوطن    «الإحصاء»: الرياض الأعلى استهلاكاً للطاقة الكهربائية للقطاع السكني بنسبة 28.1 %    السعودية الأولى عالميًا في رأس المال البشري الرقمي    الطائرة الإغاثية السعودية ال 24 تصل إلى لبنان    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    سجن سعد الصغير 3 سنوات    تحديات تواجه طالبات ذوي الإعاقة    حرفية سعودية    تحدي NASA بجوائز 3 ملايين دولار    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    «الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    أمطار على مكة وجدة.. «الأرصاد» ل«عكاظ»: تعليق الدراسة من اختصاص «التعليم»    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    فصل التوائم.. أطفال سفراء    في الشباك    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    ضاحية بيروت.. دمار شامل    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    ألوان الطيف    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    نائب أمير الشرقية يكرم الفائزين من القطاع الصحي الخاص بجائزة أميز    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    رئيسة "وايبا": رؤية المملكة نموذج لتحقيق التنمية    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    كلنا يا سيادة الرئيس!    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    القتال على عدة جبهات    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإبداع والتمرد في حياة المرأة: تأملات في ظواهر مصرية ... وبالتالي عربية شرقية
نشر في الحياة يوم 22 - 01 - 2001

في طفولتي دارت في رأسي أسئلة طبيعية ترد لكل الأطفال الذكور والإناث. كنا نتطلع الى السماء في الليل يبهرنا ضوء النجوم، ونسأل بالفطرة والطبيعة: "مين خلق النجوم دي كلها؟" ويأتي الجواب: "ربنا خلق النجوم". ويأتي السؤال الطفولي طبيعياً ... ولكن لا بد من سد الطريق على عقل الطفل أو الطفلة، حتى لا يسأل أسئلة تمس المحرّمات.
تحت اسم المحرّمات يتوقف عقل الأطفال عن طرح الأسئلة الطبيعية وإن كان الطفل أنثى فإن المحرّمات تكون مضاعفة، لأن القيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية التي تحكم الذكور ليست هي القيم التي تحكم الإناث. بسبب هذه الازدواجية يتوقف عقل البنت عن التفكير في أشياء يفكر فيها أخوها الولد. قد يحلم الولد أن يكون طياراً يحارب الأعداء لكن أحلام البنات تختلف. قد تحلم البنت بالزواج وولادة الأطفال من دون أن تشعر بإثم اللذة الجنسية.
يرتبط الإبداع في حياة الإنسان بالحلم الطفولي: ماذا أريد أن أكون في حياتي؟! السؤال الأول الذي يُبنى عليه الحلم. قالت إحدى البنات لأبيها وهي في السابعة من العمر: "عاوزة أكون طيارة أضرب الإنكليز بالقنابل من الجو". كان الأب يحكي لأطفاله عن الأعداء الإنكليز وكيف ضربونا بالقنابل من الجو. وكان من الطبيعي لفتاة طبيعية ان تحلم بركوب الطائرة وضرب الإنكليز كما ضربونا. كان أبوها يقول الضارب يُضرب، القاتل، يُقتل والعين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم.
وقالت طفلة أخرى في السابعة من عمرها لأمها: "عاوزة أكون كاتبة زي بابا". كان الأب كاتباً يمسك القلم ويكتب أشياء تثير خيال الطفلة، لكن الأم كانت في المطبخ معظم الوقت تقشر البصل والثوم، ولم تكن الطفلة البنت تحلم أن تكون مثل أمها.
وماذا تفعل البنت بأحلامها الطفولية غير المقبولة من أمها وأبيها أو المجتمع من حولها؟! ولماذا يحلم أخوها بأن يكون كاتباً مثل أبيه وعليها هي أن تحلم أن تكون مثل أمها؟! ويأتي الرد الشائع الذي تصمت بعده البنات: لأنك بنت وهو ولد. وإن سألت البنت سؤالاً آخر يقولون: ربنا قال كده؟ ما أن تسمع البنت كلمة "ربنا" حتى تصمت تماماً. ويكف عقلها عن التفكير في الأمر لأن ما يقوله الله هو الحق، والله لا يُسأل عن شيء. وتكف الطفلة تماماً عن الأسئلة وترضى بالمصير الذي أراده الله لها.
ومَنْ هي الطفلة التي يمكن أن تتمرد على إرادة الله وتختار لنفسها مصيراً آخر؟! يحتاج الأمر الى شجاعة وثقة بالنفس حتى وتحلم بمصير آخر غير مصير البنات مثيلاتها، يحتاج الحلم إلى خيال وأمل وإصرار على تحقيق الحلم، لكن الإنسان لا يمكن أن يتخيل شيئاً لا يعرفه، وإن لم تعرف الطفلة أن لها عقلاً مثل أخيها الولد وأنها يمكن ان تكون كاتبة مثله أو مثل أبيها فإنها سوف تعجز عن الحلم بما لا تعرف. فكيف تعرف الطفلة أن لها عقلاً مثل أخيها الولد؟!
هذه المعرفة تولد مع الإنسان أو الإنسانة. يدرك بالفطرة أنه إنسان مثل الآخرين أو أنها إنسانة وأنها قادرة على التفكير مثلهم. حين ذهبت الى المدرسة وأنا طفلة أدركت أنني أفهم مثل أخي وزملائه الأولاد بل أتفوق عليهم. لماذا لا أحلم إذاً بأن أكون أستاذة أو كاتبة أو دكتورة أو طيارة أو فنانة في السينما أو المسرح أو أي شيء آخر أحبه.
تحتاج الطفلة في أول حياتها الى مَن يساندها في حلمها في البيت أو في المدرسة أو أي مكان آخر. كالنبت الأخضر الصغير يحتاج الى سند يحميه من الرياح التي يمكن ان تقضي عليه. إن حرمت الطفلة هذا السند، إن لم تجد أحداً يشجعها، فسوف يموت الحلم وتنشأ كما يريدون لها أن تكون.
لكن الحلم لا يموت تماماً طالما هي تعيش. إنها تدفنه في جزء عميق من عقلها، كالصندوق المغلق تخفي فيه أحلام الطفولة والأسئلة الطفولية، تدفن فيه الوعي الطفولي الطبيعي الذي ولدت به، الوعي الفطري الذي يشكل الأنا الحقيقية وماذا تريد أن تكون. ربما يظل الصندوق مغلقاً طوال حياتها، تتزوج وتنجب وتعيش وتموت من دون أن تفتح الصندوق. قد تتسرب من الصندوق أشياء أثناء نومها تراها في الأحلام ثم تنساها حين تصحو وتصحو معها الأنا الاجتماعية المصنوعة غير الطبيعية.
هذه الأنا الاجتماعية المزيفة أصبحت تحمل في العلم والطب النفسي لقباً رفيعاً هو "الأنا العليا" أو الأنا الواعية، أو الوعي، وأصبحت الأنا الحقيقية الحبيسة الصندوق المغلق هي الأنا الدنيا أو الأنا غير الواعية أو اللاوعي.
انقلبت الأوضاع في العلم والطب النفسي. وأصبحت الأنا المزيفة هي الأنا العليا الواعية، والأنا الحقيقية هي الأنا الدنيا غير الواعية. وتسعى وسائل التربية والتعليم منذ نشوء العبودية الى تثبيت هذا الوضع المقلوب وفرضه على النساء والعبيد، باعتباره الوضع الطبيعي أو القانون الإلهي.
أقدم العبيد والأجراء على ثورات امتدت في التاريخ البشري حتى يومنا هذا. إلا أن ثورة النساء لم تحدث بعد في أي بلد من بلاد العالم. إن الثورة تبدأ بالتمرد، وقد أصبح التمرد صفة ذكورية قد تنطوي ميزات الرجل ذي الرجولة الصحيحة، على القوة والشجاعة والإقدام والتمرد والثورة. قد يصبح الرجل المتمرد أو الثائر بطلاً شعبياً يحترمه الناس. لكن المرأة الثائرة المتمردة تبدو للناس شاذة غير طبيعية أو ناقصة الأنوثة.
وهذه إشكالية لا يفطن إليها الرجال الثوار أو الأحزاب السياسية التقدمية التي تحارب الظلم أو العبودية او الاستعمار القديم أو الجديد، وكذلك أطباء النفس ونقاد الأدب.
تحطيم الأنا العليا المزيفة
ترتبط صفات الأنوثة منذ نشوء العبودية بالخضوع والطاعة والاستسلام للمصير الأنثوي الذي فرضه الله والمجتمع. منذ الولادة تدرك الطفلة بالوعي الطبيعي الفطري أنها لا تقبل الخضوع ولن تستسلم للظلم. منذ الطفولة الأولى تدرك البنت القيود التي تفرض عليها، وهي تقاومها على نحو طبيعي تلقائي، إنها تتمرد على القيود بالوعي الذي ولدت به، لكن هذا التمرد سرعان ما يتوقف حين يختفي الوعي الطبيعي تحت طبقات الوعي المزيف مع نمو الأنا العليا الاجتماعية المزيفة، المضللة بالقيم الأنثوية السائدة، والقيم الأخلاقية التي يؤمن بها المجتمع. تتحول الطفلة الى زوجة خاضعة يحكمها قانون الطاعة، وإلى أم مثالية مضحية من أجل أطفالها وأسرتها، تملأ الرفوف في بيتها بالمساحيق والكتب التي تشيد بالأنوثة الكاملة، والأمومة العظيمة، تردد ما تقوله امها والنساء من حولها، قد تفوز بجائزة الأم المثالية، أو الطبيبة المثالية، أو الأديبة المثالية، وكلها جوائز تؤكد بها أنوثتها وأمومتها وقدرتها على الخضوع للقيم التي يحترمها الناس في المجتمع.
في الحلم قد تتضخم الأنا الاجتماعية المزيفة وتصبح عملاقاً كبيراً يشبه الصنم الضخم تحمله فوق رأسها كالتاج يتحول في الحلم الى حيوان مفترس أو ثعبان يهبط من رأسها ويلتف حول عنقها، تصحو من الحلم مذعورة ثم تنام وفي الصباح تنسى الحلم، إن لم تنسه وحكته لأحد أطباء النفس يفسر لها الحلم على الطريقة الفرويدية الحديثة، هذا الثعبان هو اللاوعي أو الأنا الدنيا أو "الإد" غير الواعي حيث تكمن غريزة الحياة أو شهوات الجنس، ينصحها الطبيب النفسي أن ترقى بنفسها الى القيم العليا أو الأنا العليا لتكون امرأة مثالية يحترمها الجميع ولا يتهمها أحد بالتمرد أو عدم التكيف مع المجتمع. وتقول لها جدّتها: هذا الثعبان في الحلم هو عدوك فاقتليه قبل أن يقتلك. وتنسى الفتاة أحلامها وكلام جدتها لأنها تخاف من الثعبان ولا تعرف كيف تقتله.
النسيان هو المقبرة الذي يُدفن فيها الإبداع أو الوعي الحقيقي الطفولي الذي أصبح يحمل اسماً علمياً لا يدل عليه وهو "اللاوعي"، والذي أصبح يشتمل على غريزة الحياة ومعها غريزة الجنس والشهوات وكل ما يبعث على الخزي والعار في حياة المرأة المثالية ذات الأنا العليا المتضخمة.
هذا التناقض هو أساس الفكر العبودي السائد في العالم حتى اليوم. إن غريزة الحياة هي أقدس شيء في الوجود، وهي تحافظ على حياة الإنسان وهي نفسها شهوة الجنس، أحط شيء في نظر الناس، خصوصاً بالنسبة الى المرأة. هذا التناقض نفسه موجود في العلم والطب النفسي. إن أقدس شيء في الحياة غريزة الحياة أو شهوة الجنس يكمن في اللاوعي أو ما يسمونه اللاوعي، أو الأنا الأدنى، أو الشيطان محطم الإنسان. والحقيقة إن الأنا الأعلى هي التي تقتل في الإنسان أقدس ما لديه، حياته وعقله وإبداعه الفطري الطبيعي.
وأصبح على الإنسان امرأة أو رجلاً، أن يحطم هذه الأنا الأعلى المزيفة من أجل ان يكون مبدعاً. أصبح على المرأة المبدعة ان تحطم هذا الصنم المزيف المصنوع اجتماعياً منذ الطفولة حتى الموت.
إنها عملية صعبة، قد تبدو مستحيلة في حياة النساء، لهذا تعيش وتموت غالبية النساء من دون أن يُسهمن في الأعمال الإبداعية. ويتساءل نقاد الأدب: "لماذا يزيد عدد المبدعين عن عدد المبدعات؟! لماذا يزيد عدد العباقرة من الرجال مثيلاتهم من النساء؟! لا يدرسون التاريخ منذ نشوء العبودية، لا يعرفون شيئاً عن القيم الطبقية الأبوية السائدة حتى اليوم، لا يعرفون شيئاً خارج تخصصهم النقد الأدبي ويردون على أنفسهم قائلين: "العبقرية صفة ذكورية".
إن أفلتت امرأة من القيود وحطمت الأنا الأعلى المزيفة ومعها القيم الطبقية الأبوية السائدة وأبدعت شيئاً في مجال العلم أو الأدب فإنهم لا يفهمونه، يبدو لهم إبداعها نوعاً من الخروج عن القيم، يحكمون عليه حكماً أخلاقياً أو سياسياً من دون أن يفهموه. وكم تُدفن الأعمال الإبداعية للنساء لهذا السبب. يتم تجاهلها باعتبارها غير أخلاقية أو غير وطنية أو غير مؤمنة بالدين، وقد يشخّصها أطباء النفس بأنها غير معقولة أو غير عاقلة ومكانها الصحيح هو المستشفى النفسي.
"المكبوت منذ الطفولة"
يسعى الوعي أو الأنا العليا الاجتماعية المزيفة خصوصاً في حياة النساء الى أن تجعل نفسها غير واعية بشهوة الحياة أو غريزة الجنس أو غيرها من الرغبات القوية في حياة الإنسان. بمعنى آخر تصبح الأنا العليا غير واعية بالقوة الإنسانية المبدعة في أعماقنا التي تحافظ على حياتنا. تصبح الأنا العليا غير واعية بالنهر المتدفق في أعماقنا منذ الطفولة، ويمكن لهذه الأنا العليا أن تؤلف الكثير من الكتب والمقالات التي يهلل لها النقاد وتحظى بالجوائز، إلا أنها تظل أعمالاً خالية من الإبداع لا تمس وجدان الناس، أو لا تصل الى النهر المتدفق داخل الإنسان المكبوت منذ الطفولة.
هذا النهر الطفولي المبدع موجود لدى كل إنسان امرأة أو رجلاً. إنه منبع الإبداع يتدفق مع صحوة الذاكرة. إنه ليس صفة يحظى بها فقط العباقرة. إنه ليس إلهاما يسقط علينا من السماء. إنه موجود داخل صدورنا وعقولنا منذ وُلدنا من بطون أمهاتنا. إنه حقيقة لا يعرفها العلماء والأطباء الذين يطلقون عليه اسم اللاوعي، أو الأنا الأدنى. إنه حقيقة لا يعترف بها أصحاب وصاحبات الأنا العليا المتضخمة اجتماعياً أو الناجحة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، لأنها تتعارض مع إحساسهم بالتميز أو العبقرية.
عملية الكبت تحدث في حياة جميع الأطفال ذكوراً وإناثاً. لكنها تحدث بدرجة أشد في حياة البنات. فالبنت تشعر بالعار، وإن كانت ضحية اعتداء أو اغتصاب. البنت تشعر بالاثم وإن كانت طفلة لا تعرف ما هو الاثم. تحاول البنت التكفير عن ذنوبها بمزيد من الطاعة والصلاة والخضوع. منذ السابعة من عمري وأنا أركع وأصلي وأطلب من الله أن يغفر لي ذنوبي.
ثم بدأت أدرك انني بريئة ولم أقترف ذنباً. كنت أتصور أن ما يحدث في أعماقي جريمة. وما يدور في رأسي من أفكار وما يظهر على جسدي آثام تستوجب دخول النار. ثم تحررت من الاثم حين سمعت كلاماً من امي. تحررت من الخوف من نار الآخرة وبدأت أفكر في حياتي التي أعيشها في الدنيا.
ما درجنا الى تسميته اللاوعي هو الوعي الأعلى، منبع الإبداع. ما درجنا على تسميتها الغرائز الدنيا هي غريزة الحياة العليا، هي نهر الوعي الغزير الذي نسد عليه الطريق تحت الضغوط الاجتماعية. تبدأ عملية الإبداع بالكف عن عملية الكبت، بإزالة الأحجار التي سددنا بها مجرى النهر.
الإبداع هو اكتشاف هذا النهر وفتح الطريق أمامه. نحن لا نخلق هذا النهر، إنه موجود في أعماقنا منذ الطفولة.
الإبداع ليس إلا اكتشاف ما هو موجود، وإعادة اكتشافه في ضوء جديد. الإبداع هو العودة الى المعرفة الفطرية التي عرفناها في الطفولة.
أدركت أخيراً وبعد أن تجاوزت الستين من عمري أنني لم أكتب شيئاً لم يكن كامناً في صدري منذ الطفولة. همست بهذه الحقيقة في أذن أحد الشعراء في جنوب افريقيا فصاح قائلاً: "كنت أظن أنني الوحيد الذي أشعر بهذا".
يحتاج الأمر الى شجاعة لطرح السؤال الطفولي الأول. السؤال الطفولي المكبوت الذي قاد الى أعظم الاكتشافات في عالمنا الحديث ومنها الكومبيوتر والإلكترون وعلم الكون الجديد. منذ أدركنا أن الأرض كروية وليست مسطحة وأنها تدور حول الشمس وليس العكس، وإن الكون لم يخلق في ستة أيام بل في ملايين السنين، وأن المرأة لها عقل وذكاء مثل الرجل وبالتالي لا يحق له أن يسيطر عليها أو يحبسها في البيت لتطبخ له أو يفرض عليها العزلة بعيداً من الحياة العامة.
إلا أن المؤسسات السياسية والدينية في المجتمع تقاوم هذه الأفكار المتدفقة من المخزون الطفولي القديم، وإلا انهار النظام الطبقي الأبوي، وتحررت الغالبية الساحقة من البشر من قمع الطبقة الحاكمة أو الأقلية التي تملك النفوذ والمال. وكيف يمكن للأقلية ان تسيطر على الغالبية الساحقة وتسرق قوتها وعرقها؟! كيف يمكن للرجال ان يسيطروا على النساء ويسرقوا منهن الشرف اضافة الى العرق والجهد؟! كيف يمكن أن تستغل الحكومات شعوبها، وكيف يمكن ان يسيطر منطق القوة المسلحة على الحق في السياسات الدولية والمحلية؟! كيف يتحقق ذلك من دون تخويف الغالبية الساحقة من النساء والرجال بالقوة القادرة على البطش بالمتمردين والمتمردات الذين يرفعون راية العصيان ضد إرادة الله والوطن والحاكم.
في طفولتنا في المدارس في مصر كنا ننشد كل صباح في الطابور قبل الدخول الى الفصول: الله، الوطن، الملك. ننطق الثلاثة في نفس واحد. كأنما الثلاثة شيء واحد، ومن يعصى أحدهم فقد عصى الآخر، أو من يهتف بسقوط أحدهم فقد هتف بسقوط الآخر.
بلغت الخمسين عاماً ودخلت السجن حيث أدركت ان الملك لم يسقط. فقط تغير اسمه.
الإبداع والشيطان
مع تصاعد القوى السياسية الدينية في بلادنا منذ السبعينات من القرن العشرين اشتدت القيود على النساء والفقراء. لقد زاد الفقراء فقراً وحُرمت الغالبية الساحقة من الضرورات المادية، ولا بد من قمعهم بالوسائل الروحانية ومزيد من المواعظ الدينية. انتشرت ظاهرة التدين بين الرجال وظاهرة الحجاب بين النساء. اشتدت عمليات التخويف من عذاب القبر والحرق في نار جهنم الحمراء وتعليق المرأة من شعرها يوم القيامة إن خالفت الله أو الأب أو الزوج. تختلف القيم التي تحكم الذكور عنها عند الإناث. يهتف الذكور: الله، الوطن، الملك، لكن الإناث يهتفن الله، الأب، الزوج.
في ندوة في إحدى كليات جامعة القاهرة عام 1992 وقفت إحدى الأستاذات الكبيرات تعارض ما قلته عن العلاقة بين التمرد والإبداع، كانت تلف رأسها بحجاب سميك وهتفت بغضب: طاعة الزوج من طاعة الله! ثم أضافت أن ما أقوله ينتمي الى الشيطان.
وتساءلت لماذا ارتبط الإبداع بالشيطان؟ لماذا نقول مثلاً شيطان الفن أو شيطان الشعر؟ ولماذا نشعر بلذة حين نقرأ قصيدة من الشعر؟ أو حين نسمع قطعة موسيقية؟ أو نرى لوحة فنية؟ أو نقرأ رواية؟ أو نشهد رقصة بديعة؟!
إن ارتباط الشيطان بهذه اللذة الفنية لا يمنعنا من الإحساس بها. وبالمثل ان ارتباط الشيطان باللذة الجنسية لا يمنعنا من الإحساس بها. فهل توجد علاقة بين لذة الإبداع ولذة الجنس؟!
حاول العلم أو الطب النفسي حل هذه الإشكالية أو هذا التناقض، بالنظرية القائلة أن منبع هذه اللذة هو اللاوعي، أو الأنا الأدنى، حيث تكمن الشهوات الشيطانية والغرائز منها غريزة الحياة، ولا بد أن منبع الإبداع هو هذا اللاوعي، ومن هنا ترابط الإبداع بالشيطان.
كيف إذاً نشجع أطفالنا من الذكور والإناث على الإبداع وهو يرتبط بالشيطان؟! كيف نصور لهم أن لذة الجنس آثمة وفاسدة مع أنها هي غريزة الحياة الواعية القادرة على حمايتنا؟
لولا غريزة الحياة القوية المبدعة لاندثرت الحياة من فوق الأرض. لولا الإبداع الإنساني المستمر ضد الموت والقيود والقمع لاندثرت الحياة فوق الأرض. لهذا يبدو الرجل المبدع متمرداً ثائراً ضد كل القيود التي يمكن ان تضعف وعيه وإبداعه ومنها القيود الجنسية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية. وقد يغفر المجتمع للرجال المبدعين لأنهم رجال، ولأن الرجل لا يعيبه إلا جيبه، أما النساء أو الفقراء من الرجال المبدعين فإن المجتمع لا يغفر لهم شيئاً، بل إن حسناتهم قد تنقلب الى سيئات، ويحظى بالجوائز قلة من الرجال يحملون لقب عباقرة، يضربون مثلاً شائعاً للإبداع بأنه الفوضى وعدم المسؤولية والتعددية الجنسية. وكم اشتهر هذا الشاعر الكبير بأنه زير نساء أو اشتهر هذا الأديب الكبير بأنه يشرب الخمر أو مدمن على الفساد ولا يحافظ على مواعيده أو وعوده ولا يكاد يفيق من غيبوبة الإبداع أو اللاوعي.
إلا أن هذه الغيبوبة وهذه الفوضى أو اللامسؤولية لا تحدث مع أصحاب النفوذ والسلطة. إذ سرعان ما يفيق هذا العبقري الكبير ويصل قبل موعده المحدد مع الوزير أو الرئيس. نحن نعيش هذه الازدواجية في القيم كل يوم من دون ان ندركها، لكنها تمر علينا، نتقبلها صاغرين لأنها القيم السائدة، قد يعتبرها بعض المفكرين الكبار جزءاً من هويتنا الوطنية الأصلية يجب الحفاظ عليها كما نحافظ على ختان الإناث وفرض الحجاب عليهن حفاظاً على الفضيلة والعفة والأخلاق.
حقيقة الأمر ان الإبداع لا يعني الفوضى واللامسؤولية والعربدة في حانات الليل أو الانتقال من امرأة الى امرأة أو من رجل الى رجل. إن صفة "الدون جوانية" نقيض الإبداع في الرجال والنساء. إن هذا الأديب الكبير الدون جوان لم يعرف لذة الجنس ولا لذة الإبداع، وبالتالي فهو دائم البحث عنهما من دون جدوى. كالمعدة المريضة لا يزيدها الماء إلا ظمأ. قد تظهر لنا صورة هذا الأديب أو الأديبة في الصحف كل يوم أو كل أسبوع. قد يكتب الآلاف من المقالات والمئات من الكتب. قد يمارس الجنس مع نساء العالم. قد يحظى بالجوائز الكبرى والصغرى. إلا أنه يظل دائماً كالمعدة المريضة لا يزيده الماء إلا عطشاً.
إن انتشار هذه الصورة عن الشخص المبدع لا تعني أنها الحقيقة. إن انتشار القيم المزدوجة في بلادنا لا يعني أنها القيم الإنسانية الصحيحة. لأن الازدواجية في حد ذاتها مناقضة للأخلاق. إنها تعني الكذب، وتعني الظلم، والسبب في انتشارها آلاف السنين واستمرارها حتى اليوم ومنذ نشوء العبودية ليس لأنها صحيحة وعادلة، بل لأنها تُفرض بالحديد والنار على الغالبية الساحقة. بقوة البطش السياسي والديني معاً. وقد يكون هذا البطش خفياً مستتراً وراء كلمات جميلة من نوع الطاعة والفضيلة والإيمان والمثالية والوطنية والشرف والأخلاق والأمومة والأنوثة... الخ.
وكيف يتمرد الإنسان على هذه الكلمات الجميلة التي يرضعها في البيوت والمدارس والجوامع والكنائس وأماكن العمل واللهو في العائلة والدولة؟ وما هي القوة الكامنة داخل المرأة أو الرجل التي يمكن ان تضحي بالجوائز والسمعة الاجتماعية الطيبة ورضا الله والوطن والملك، والأمان الاقتصادي والعائلي في كنف الأب أو الزوج؟ ما هي القوة التي تجعل كتابة قصة قصيرة أو أبيات قليلة من الشعر أهم من كل الجواهر والجوائز في الدنيا والآخرة؟!
ترتبط قوة الإبداع باللذة الكبيرة المصاحبة لعملية الإبداع ذاتها بصرف النظر عن العواقب أو النتائج. وهي تشبه قوة غريزة الحياة بل إنها هي قوة غريزة الحياة ذاتها. إنها الوعي الأعلى الإنساني الذي تم تجهيله وتأثيمه وتسميته اللاوعي.
هذه اللذة يحسها الأطفال في بداية الطفولة الأولى حين يلعبون، ينتفض كيانهم بلذة طاغية تشمل الجسد والعقل والروح في كيان واحد كلي لا يمكن فصل أحدها عن الآخر. هذه اللذة تفوق اللذة الجنسية ولذة الأكل ولذة النوم، ويعرف المبدعون والمبدعات هذه اللذة، التي تجعل الواحدة أو الواحد منهم ينسى الأكل والنوم والجنس ويستغرق في الكتابة او الرسم أو الغناء أو أي عمل آخر. هذه اللذة الطاغية تتضاءل الى جوارها الملذات جميعاً. هذه اللذة الطاغية قادرة على تحويل أي خسارة الى مكسب وأي يأس الى أمل، وأي ضعف الى قوة.
هذه اللذة تصاحب العمل الإبداعي وتنتهي بانتهائه، وهي التي تجعل المبدعة أو المبدع يبدأ يعمل من جديد، لا يتوقف عن الإبداع حتى الموت. يتلاشى الماضي والحاضر والمستقبل في لحظة واحدة هي لحظة الإبداع، هي اللحظة الحاضرة الممدودة الى الأبد، هنا والآن.
"أنا أكتب رواية" تنطقها الكاتبة الأديبة بلذة أكبر من أن تقول "أنا كتبت رواية". إن الفعل في الحاضر هو اللذة وهو الإبداع وليس هو الفعل الماضي.
ألهذا السبب يبدو كل عمل إبداعي ناقصاً لا يكتمل أبداً. إن العمل الإبداعي ما هو إلا إشارة الى عمل إبداعي آخر أكثر إبداعاً.
إذا ركزنا على العملية الإبداعية ذاتها اثناء حدوثها هنا والآن فإنها تبدو موحية أكثر، تصبح مغامرة ممتعة في المجهول وليست إنتاجاً من الأعمال أو الكتب أو اللوحات، التي تبدو ناقصة عقيمة.
إن لذة الإبداع مثل لذة الحياة تبلغ ذروتها هنا والآن.
بوكا راتون - فلوريدا
في 13/9/1999
* قدم هذا البحث في مؤتمر "مئة عام على تحرير المرأة المصرية" الذي عقد في القاهرة، وينشر للمرة الأولى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.