ها نحن نقف بحرية وتأمل ودهشة أمام هذه الجدران الممتدة في المدن والأحياء والساحات، كأنها صور ملونة من خزين الذاكرة وشجون اليوميات واللحظات المشبعة بالوعي والتجدد، ونحن حين نعبر الطرقات والجسور، ونتجول بين المباني والبيوت والمعالِم القديمة التي تبعث بجدارياتها وألوانها على الحُلم والرؤية والتمرد، فإننا نحاول أن نقرأ التاريخ بعيون الفن، ونخترق حاجزَ الصمت إلى فضاءات العيش، ونُعانِق الوجود بكلماتٍ توقظ كوامن النفس وتُصلِح عطب الروح. كلما نظرنا إلى هذه الجداريات التي أبدعتها أناملُ فنانين عباقرة ومواهب فذة، كلما اتسعت الرؤية، وارتقت ذائقتنا، واغتنت عواطفنا وانفعالاتنا، ووجدنا فيها النافذة التي تطل على الحقيقة، أو الضياء الذي ينزع الحجب عن الفكر؛ إنها جدارياتٌ مثقلة بالألم، تملأ الزمن بقصصها ورموزها، وتَجعل من المكان مسيرةَ نضالٍ وإرادة، تُعبِر عن الأحزان كما الأفراح، وعن التراث كما الحداثة، هي من الناس إلى الناس، من تطلعاتهم وأحلامهم وتأملاتهم وأوجاعهم، هي وحدها الصوت الذي يصعد من تحت ركام الصمت وينسكب شلالَ عنفوان، وحدها الحركة التي تنبثق من الجماد وتُزهر ألوانًا وحروفًا، وهي الفكرة التي تولد من لغة الأسوار والأغلال لتتحول إلى منارة للحرية لا تنطفئ. هكذا يحمل الفنُ الجداري كل هذه القيَم الإنسانية النبيلة والمعاني العميقة، نظرًا لدوره التاريخي والحضاري والثقافي. فهو منذ الإرهاصات الأولى على جدران الكهوف والأَسقُف الصخرية، مرورًا بجدران المعابد والكنائس، وصولًا إلى جدران المباني والميادين والملاعب، كان وسيلةً حقيقية للتعبير عن الحقوق والهواجس والمبادئ والقضايا الخاصة والوطنية، وكان أيضًا وسيلة للتواصل والإعلام ومحطةً مهمةً لإيصال الرسائل احتفاءً بكرامة الإنسان وحريته. كذلك كان شاهدًا على كل المتغيرات والتطورات على مر العصور، إذ لكل مرحلة جداريتها وكلماتها وألوانها وأساليبها وفنانوها، ولكل بلد أو مدينة حكاياتها وأحلامها ونضالاتها وإبداعاتها. ومن خلال مشاهدتنا لأي جدارية في الطريق يُمكن أن نقرأ الواقع والأحداث والتطلعات، ويُمكن أيضًا أن نتعرف إلى الحضارات والثقافات، فهي تُتيح لنا الانطلاقَ نحو فضاءاتٍ واسعة بلا قيود أو زمان، تتجدد العلاقة مع المكان، ويتسع الحنين وتتجلى الذكريات، وفي كل مرة نشاهد هذه الجدارية أو تلك نكتشف أسرار الأيام وعبقرية المكان، ونشم منها رائحة الماضي، كأننا أمام قصائد متحررة تشدو بالحب والإحساس والسلام. والمُتأمل في الجداريات، سيتعرف إلى أنواعٍ مختلفة ذات غاياتٍ وأهداف، فمنها ما هو مُقاوِم وثوري (مُقاوَمة الاحتلال)، ومنها ما هو تجميلي (تزيين المُدن)، ومنها ما هو تشكيلي (لوحات نابضة بالحياة والطبيعة)، كذلك سيتعرف إلى جداريات على شكلِ نُصبٍ ومنحوتاتٍ (نصب الحرية في ساحة التحرير في بغداد)، وأيضًا على شكل وسائل إرشادية وتعليمية وتوعوية (مخاطر الأمراض وأهمية النظافة). وهناك أيضًا جداريات تتضمن عباراتٍ تحفيزية وتشجيعية عن النجاح والعمل والحياة، إضافة إلى ذلك، ثمة جداريات تلعب دَورًا توثيقيا بهدف استرجاع أحداث الماضي. إن أهم ما يميز هذا الفن العالَمي هو وجوده خارج المعارض والغاليريهات وأنه غير مرتبط بالوقت، يتركز على واجهاتِ المباني والجدران، وغالبًا ما يحمل رسالةً سياسية وثقافية. لذا يُمكن مشاهدة ومتابعة إنجاز أي جدارية من البداية حتى النهاية بشكلٍ مباشر، سواء كان العمل فرديا أم جماعيا، والتعرف إلى الطريقة والتقنيات التي يَستخدمها الفنانون في رسمها، والاطلاع على أفكارهم وإبداعاتهم والرسائل التي يريدون إيصالها، والمضامين التي يقدمونها سواء بأسلوب واقعي أم تجريدي أو «فانتازي»، وهي بتشكيلاتها وحروفياتها وتكويناتها تضفي جماليةً ساحرة وبهاءً ورَونقًا خاصا. الجداريات كفعل مقاومة اكتسبت الجداريات أهميةً كبيرة منذ العهود الأولى، كونها تُعَد من أَقدم أشكال الإبداع الفني والنحتي والزخرفي في التاريخ، وفيها من الحوامل الفنية ما تَجعل المساحات الجامدة تضج بالحركة والجمال. فعبرت عن الحياة والموت، ووثقت الطقوس والعادات الدينية، لكنها في السنوات الأخيرة برزتْ بشكلٍ كبير، وخصوصًا في البلدان التي تعاني الاحتلال والظلم، وتَشهد حروبًا وصراعات، حيث عبر الناس عن قضاياهم وآلامهم وتوقهم إلى الحرية، ودافعوا عن عنفوانهم وكرامتهم كخطوةٍ منهم في إيصال أصواتهم، وكنَوعٍ من التحدي والصمود والبقاء. من هنا اتخذ فنانون فلسطينيون من الجدران في المُدن والقرى والمخيمات، وحتى جدار الفصل العنصري، وسيلةً للمقاومة والثورة والانتفاضة؛ فمنهم من رَسَمَ القدس والمسجد الأقصى، ومنهم مَن رَسَمَ صورًا للشهداء وحكايات النضال والبطولة والفداء، وبعضهم اتخذ منها وسيلة لتسليط الضوء على قضية الأسرى في السجون الإسرائيلية، فجسدوا مُعاناتهم وآلامهم وتضحياتهم. وهذا الشكل من فعل المقاومة ينسحب حتى إلى خارج فلسطينالمحتلة، وتحديدًا في المخيمات الفلسطينية في لبنان، حيث تَمتلئ الجدرانُ برسوماتٍ مُختلفة كنَوعٍ من الاحتجاج والصمود والمُطالَبة بحق العودة، إضافة إلى تناول موضوعات تعزز الهوية والتراث الشعبي الفلسطيني. ويُمكن الإشارة إلى بعض الجداريات التي تضمنت عبارات ومقاطع شعرية للشاعر الراحل محمود درويش (هذا البيت لي/ هذا الجدار الرطب لي/ هذا الرصيف وما عليه لي)، (وعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة)، وجداريات أخرى تُخاطِب العالَم وتتحدى الاحتلال (عائدون، فلسطين باقية من بَحرها إلى نَهرها، قادمون، مفتاح العودة، سأقاوم، حتمًا سنعود، أنا كالقيامة ذات يومٍ آتٍ..). وللقدس مساحة كبيرة من الفن الجداري لرمزيتها وتاريخها وهويتها (كل المقاومة من أجل القدس.. القدس – عاصمة – فلسطين.. حبك ثورة..)، هذا فضلًا عن رسوماتٍ ملونة لقبة الصخرة ومسجد الأقصى. الجداريات وتحويل وجه المدن والمُتتبع لهذا الفن يُمكن أن يشاهد جداريات مرسومة بريشة فنانين كبار، وأخرى من أعمال هواة كان لهم دَورُهم البارز في جعْلِه فنا شعبيا؛ فهُم يُترجِمون الواقع بكل معانيه ويَرسمون مستقبلًا يصبون إليه يتسم بالحرية والأمان والاستقرار. فقد غيرت الجداريات وجهَ المُدن، وحولت الشوارع إلى لوحاتٍ تشكيلية باهرة، وجَعَلَتْها حية نابضة بالألوان والكلمات والصور، تُجسِد الحياة والتعايُش والسلام، وتَحمل قيَمًا جمالية ومعاني نبيلة، وتُبرِز القضايا الراهنة في مجالات السياحة والتراث والصحة والبيئة. كلها حالات إبداعية لجذْبِ الأنظار وإيصال الرسائل، بما في ذلك الاحتجاج والثورة، حيث شكلت مَقصدًا للزوار والسياح والمُهتمين وعشاق هذا الفن للاستمتاع أولًا بالألوان والكتابات والجماليات والإيماءات؛ وثانيًا لقراءة الموقف والدور والحدث والهدف والأهمية من زوايا واتجاهات متعددة؛ وثالثًا لاستمداد القوة والأمل والمعرفة والتضحية. وتكشف الجداريات برسومها ورموزها ودلالاتها عن تلك العلاقة بين الإنسان والبيئة، وبين القصيدة والمكان، وبين اللغة والإبداع، وقد تتخذ أبعادًا وأشكالًا متنوعة. فالنصوص التي حملت عناوين «جداريات» لا تقل أهميةً وتأثيرًا عن تلك التي ملأت الحوائط والشوارع والأماكن، وجميعها يتميز بمضمونٍ فكري وثقافي ورؤيةٍ تاريخية وجمالية وفنية. إنها تعكس ما في دواخلنا من قلق وشغف وأسئلة، وتنقل أحاسيسنا وانفعالاتنا وهمومنا، لعلها تصور جانبًا من حياتنا وأحوالنا ويومياتنا، لتظل شاهدةً على المُعاناة وويلات الحرب وقسوة التاريخ، ولتظل ذاكرةً حية تستعيد الماضي وتقرأ الأحداث برؤىً ومساراتٍ جديدة. اختلفت طبيعةُ الجداريات، لجهة تعبيرها عن الشعوب، وباتت أكثر وضوحًا، وخصوصًا في المرحلة المُعاصرة والحديثة. وهذا ما أشار إليه الدكتور ماضي حسن في كتابه «الفن وجدلية التلقي» قائلًا إن الجداريات العربية تحكي مضامينها في مجالٍ مفتوح أمام المجتمع العام من خلال عرضها في أماكن في الطرق وأمكنة التجمع، من حدائق وأبنية كبيرة. ولقد تجسد ذلك عند بعض الدول العربية بأثر الأحداث الحالية منها: قيام الثورات في تونس ومصر حتى أُطلق مصطلح «حرب الحوائط»، حيث كان الفن قادرًا على توصيل رسالة الشعوب إلى الحُكام، وكان الأمر في ليبيا أيضًا؛ وهكذا تحول هذا الفن من أداةٍ في يد الحُكام إلى فن احتجاجي، غالبًا ما يَعكس اعتراضًا على الأوضاع السائدة. أخيرًا حين نتحدث عن الجداريات، فلا بد من أن نشير إلى الدور الذي لعبته الفنون القديمة في إثراء فن التصوير الجداري أو النقوش الجدارية، وهي ما زالت سائدة حتى اليوم، وتنتمي إلى الحضارات والأُمم القديمة، كالحضارة الرافدينية والمصرية والهندية والصينية واليابانية؛ وتحتوي في الغالب على أساطير ومشاهد حياة وقصص تاريخية، كانت تُرسَم في المعابد والمقابر، ثم في قصور الملوك. أما الحضارة الإسلامية فكان لها نصيبٌ وافِرٌ من الجداريات تمحورت حول الفنون المعمارية كزخرفة المساجد والمراقد الدينية ونقشها بالكلمات والمُنمنمات والآيات القرآنية والكتابات الشعرية، فكانت خير وسيلة للتعبير عن أنماط الحياة والتفكير والسلوك وطبيعة المُجتمعات والمضامين الاجتماعية والفكرية والثقافية. *كاتب وإعلامي من لبنان * ينشر بالتزامن مع دورية أفق