«التسامح» كلمة ظهرت في فترة الحروب الدينية بين «البروتستانت» و«الكاثوليك»، امتثالا لما فرضته متطلبات إيقاف الحروب بينهما، واستجابة للظروف الإنسانية. ثم استعملت الكلمة في المجالات الفكرية، وتعني عند الإنجليز، مسامحة الغير في أي قول أو فعل، حتى لو لم يرق للآخرين، أو لم يتفق معهم، وعند الفرنسيين تعني قبول الاختلاف من الآخر في تفكيره وطريقة عيشه، ويتضمن ذلك السماح للمخالف في أن يعتقد ما يختاره، وأن يمارس شعائر دينه كيفما يشاء، وعند الفلاسفة يقصدون بالكلمة ذاتها تحمل أذى الغير، والاحترام الودي له، وتعني أحيانا اللياقة، والشفقة، واللامبالاة، والازدراء. في شرع المسلمين، لم ترد مادة «التسامح» اللغوية في القرآن الكريم، ولا يعني ذلك خلوه عن تدبير العلاقة مع المختلفين، ووردت كلمة «السمحة» في السنة الشريفة، ومستند ذلك جوابه، صلى الله عليه وسلم، عن سؤال: «أي الأديان أحب إلى الله؟، قال: «الحنيفية السمحة»، رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد، والإمام أحمد في المسند وغيرهما، عن سيدنا ابن عباس، رضي الله عنهما، والقصد «الإسلام» بدليل أحاديث أخرى، منها: «إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة»، و«لتعلم يهود أن في ديننا فسحة وإني أرسلت بالحنيفية السمحة»، و«أمرت بالحنيفية السمحة السهلة»، وكلها أحاديث مروية ثابتة ويستند عليها. و«السمحة» في كل ما سبق تعني انعدام الحرج في الدين، ورفع المشقة عن الناس، و«إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه..». العلاقة مع المختلفات ومعوقاتها، وكما ذكرت، تطرق لها القرآن في مواضع كثيرة، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير} في سورة الحجرات. وقوله سبحانه في سورة الممتحنة: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. وقوله الحق في سورة آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، والتعارف في الآية الأولى يقتضي التسامح، أو نوعا منه، والبر في الآية الثانية تصور شكل العلاقة مع الآخر غير المعادي، والآية الثالثة نص واضح في ندب الحوار مع الآخر، بشرط الاحترام المتبادل. كل الذي قدمته أملي منه أن يتسامح المتدينون، كذا غير المتدينين في المختلفات «الدنيوية»، ويدعو بعضهم بعضا على وإلى كلمات جامعة، ويتوافقوا في ما بينهم عليها، ويعترفوا صراحة ببعضهم، ويتركوا الاختلافات «الأخروية» لخالقهم كما أخبرهم في محكم تبيانه في سورة الحج: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.