كيف ترى تجربتك القصصية بين الواقع والأفق ؟ هذا السؤال يطرح على المبدعين بين الحين والآخر وذلك من قبيل استثارة طلائع الجيل الذين يرون أن لديهم إمكانات للإضافة والتحديث في دنيا الفكر لا سيما في مجال اهتماماتهم. ونحن نقول لهم إنه لا غرابة في هذا الإحساس فقد سبقناهم نحن إلى شعور مماثل، حقيقة إننا لم نقل ذلك صراحة إنما توخينا التجديد في هذا السبيل واستدرجنا عصارة ما استقر في فكرنا. والتجربة لا بد وأن تنبثق من القراءة والمتابعة للإنتاج المطروح في الساحة الأدبية. لو لم نقرأ كثيراً لما وجدنا هذا الدافع يحدونا إلى تكريس، تأثرنا وامتداد آفاقنا. وكانت مدرستنا آنذاك هي «الرسالة» و«الثقافة» ثم المطبوعات الأخرى مثل المقتطف والكاتب المصري التي كانت تصدر من مصر في ذلك الوقت، وربما حصل بعضنا على مطبوعات تصدر من دول عربية أخرى لاسيما في بيروت أو بغداد إلى جانب المهجر.. على أن بيروت أخذت فيما بعد شعلة التوهج، ساعدها في ذلك نظام المطبوعات الذي أطلق الحرية الفكرية، مما جعل أدباء الكثير من الدول العربية المتاخمة يسارعون إلى الاستفادة من هذه الحرية، فساهموا بإصداراتهم في إشعال الميدان الفكري. كما ساهمت الترجمة في إضفاء نوع من المنافسة بين العربي والأجنبي في مجالات شتى، نعني بذلك القصة والرواية والسيرة الذاتية والاتجاهات الفكرية التي كانت محتدمة المعارك في ذلك الحين. جدي غفر الله له كان يملك مكتبة جيدة وقد فتحها أمامي بالكامل، مما جعلني أنكب على قراءة أمهات الكتب رغم أنني في حكم الطفولة آنذاك. ومن هذه المكتبة انحفر في ذهني حب القراءة مبكراً ومن بين الذي استهواني وشدني كثيراً قصص أرسين لوبين، لما تحفل به من أحداث مثيرة ووقائع مدهشة، كما شدتني روايات زيدان التاريخية وروايات مكسيم غوركي وغيره من الكتاب السوفييت ذوي النزعة الإنسانية والمنطلق الواقعي. وكان الاتجاه الكلاسيكي هو السائد في ذلك الحين لاسيما في أوروبا وبالذات في الأدب الفرنسي. الترجمة في بيروت كان لها تأثير وصدى كبير في مختلف الأوساط خاصة حين أخذت تزودنا بمختارات من الأدب العالمي - دار اليقظة العربية السورية المصدر - أسهمت كثيراً في هذا المجال عن طريق ترجمة روائع الأدب العالمي، وكذلك إبداعات الكتاب السوريين في ذلك الوقت رواية وشعراً وقصة. فالحكومات العربية المتغيرة باستمرار التي تواجه ضغطاً من الفئات المثقفة تساهلت في دخول الكثير من الأعمال الفنية التي تصادر حالياً لأسباب سياسية أو اجتماعية. ومن هذه النوافذ أطلت على المتأدبين نفحات مختلفة من شوارد الفكر غرست لديهم محاولة الانطلاق بإنتاجهم نحو آفاق الدنيا، وبديهي أن الإنتاج المحلي كان يستوعب هذه النفحات ويضيفها إلى خزائن مصادره، فاستجاب بعض المجددين إلى زخم العطاء وتلاقح الرؤى في مجال الشعر بالذات. أما في دنيا الرواية فقد كانت رواية (ثمن التضحية) للمرحوم حامد دمنهوري أجرأ الأعمال الروائية في ذلك الحين، بينما مجال القصة يتربع عليه بعض الكتاب التقليديين أذكر منهم أحمد السباعي. في ذلك الخضم دفعت بإنتاجي القصصي الذي فوجئت بأنه لقي ترحيباً من الزملاء، وأذكر أن الأستاذ خالد خليفة - غفر الله له - التقى بي صدفة وكان ينشر قصصاً في الصحف، هنأني على اقتحامي هذا الميدان وأبدى إعجابه باتجاهي القصصي.. وكانت أول قصة نشرت لي في صحيفة اليمامة الأسبوعية بعنوان أمينة، بدأ فيها تأثري بالأدب الأجنبي المترجم. تلك بإيجاز لمحة خاطفة عن الخطوات الأولى العالقة في ذهني من تلك المرحلة التي كان ينشر فيها أيضاً بعض الزملاء الذين أذكر منهم عبد الرحمن الشاعر وغالب أبو الفرج وغيرهما مما لا تحضرني أسماؤهم الآن... والحمد لله أننا سرنا على درب التجديد خطوات متلاحقة تراها في هذه الكوكبة الناجحة من شبابنا التي لا يفوتها ما وصل إليه الأدب العالمي من إنجازات. 1995* * روائي وقاص سعودي «1933 - 2013».