عجبًا أن يتحول أحفاد شعراء المعلقات الذين يتحدثون بالعربية ولا يتقنونها ولا يتقنون اللغات الأجنبية، وليسوا في مستوى الحكم على اللغة العربية ولا اللغات الأجنبية، وعندما نقول إتقان اللغة فنحن نعني فقه اللغة ونحوها وليس الحديث والكتابة بها أو الترجمة منها وإليها. ولقد أنصف بعض علماء الغرب اللغة العربية ممن حاول فهمها ومعرفتها مقارنة بلغاتهم التي يعملون وينتجون ويتحدثون وينظّرون بها، وظاهرة التقليل من قيمة اللغة العربية في سوق اللغات وفي معاركها وحروبها ليس موضوعا جديدا على اللغة العربية فقد ظهر في التاريخ الكثير ممن يحط من قيمة اللغة العربية لأسباب سياسية وثقافية وعرقية ودينية واقتصادية واستعمارية وفي كثير من الأحيان العدائية، وأحيانًا «من باب سن المنكر حتى تذكر»، لدينا كثر من نقلة علم الغرب ونظرياته وفلسفته من بني جلدتنا وليس لديهم رصيد من البحث العلمي المعمق المستمر على مدى سنوات في مجال علم اللغات وفقهها، وإن نشر البعض عدة كتاب في موضوعات متفرقة فهذا ليس دليلا على تخصصه في اللغة وعلمه بها، بل على مستوى قدرته على استخدامها في دراساته الخاصة في موضوعات تتعلق باللغة وليست اللغة نفسها. مثل هذه القضايا ليست شغل باحث ولا باحثين ولكنها مهمة مراكز بحثية تبحث في أصواتها ونحوها وتاريخها وتغير استعمالاتها والدخيل عليها. ولو نظرنا على مستوى العمق العربي للغة العربية لن نجد عالمًا لغويًا يعد مرجعًا يرجع إليه علماء اللغة العربية وغيرهم من علماء اللغات غير العرب. بل العكس، ذهب البعض إلى استيراد وتصدير وتسويق النظريات الغربية وغالبًا من تعلم على أيدي العلماء الغربيين في الجامعات الغربية وتلبسوا قضايا اللغات مثل أساتذتهم، وعادوا بها لنشرها في المجتمعات التي يعملون بها من باب التكسب بها، وشهادات الدكتوراه ليست صكوك امتياز ولا ملكية للعلم، بل إنها شهادات على القدرة على إعداد بحث في مجال معين، وبدء التخصص والتعمق بعد الدكتوراه، ولكن البعض جعل الدكتوراه غاية، وما يقدم من أعمال للترقيات أو ما يكلفون به لبحث بعض الموضوعات ونشرها على شكل كتب ليس لها قيمة علمية، لأنها تعد من المصادر الثانوية في التخصص وليست مصادر أصيلة مبنية على دراسات معمقة. بل إنها تشبه تجميع السيارات والأجهزة، من أجهزة قديمة، والبحث في علم اللغات عميق جدًا ويحتاج إلى تفرغ وأيضًا إلى تخصص، ونقاش وحوار مع المتخصصين، ولدينا في الدول العربية مصيبة كبيرة جدًا فقد احتل أهل الأدب أقسام اللغة العربية، وإن تحدث بعضهم بفصاحة وبلاغة ولكنهم لا يفقهون في فقه اللغة ونحوها وعلومها شيء، وحاربوا المختصين في النحو الذي هو أهم علوم اللغة، ولهذا مخرجات أقسام اللغة العربية ضعيفة جدًا. يخرج من بين هؤلاء من يقول المعايير والضوابط العلمية هي المرجع، متصورًا أن الأبحاث الوصفية والتجميعية التي يقومون بها بأنها هي المعايير العلمية. ما هكذا تورد الإبل، العلم الحقيقي ليس بجهود ولا أهواء شخصية، ولكنه بالبحث في كل ما يتعلق باللغة ونظامها واستخدامها من قبل علماء في مركز أبحاث متخصص ويمكنه وضع المعايير التي بموجبها تتم محاكمة اللغات والحكم عليها، وليس في كتب مدفوعة الأجر من بعض مراكز الأبحاث الموجهة للوصول إلى نتائج محددة لتحقيق سياسات أو اتخاذ قرارات معينة. اللغة العربية في «مأزق تاريخي» سببه أناس من بني جلدتنا ويتحدثون بألسنتنا تعرف منهم وتنكر، وقد وصل ببعضهم حد المطالبة بكتابة العربية بالحرف اللاتيني، وسيحدث، فقد أعلنت الدكتورة هيفاء أبو غزالة الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية في المؤتمر الدولي للسياسات اللغوية في 18 ديسمبر الماضي أن هناك مراكز بحثية غربية تعمل على تغيير الحرف العربي باللاتيني. لهذا فإن كل من يحكم على اللغة العربية على أنها لغة مثل اللغات يجب أن يبرر رأيه علميًا وليس بالكلام، ومن لا يمدنا مثلاً بالإحصاءات والأرقام وبالدراسات اللغوية المقارنة الأبحاث والتقارير والشهادات العلمية من علماء موثوقين في علم اللغات وفي مراكز أبحاثها، وليسوا معادين من دول أخرى اعتمدهم البعض مرجعيته في اللغة العربية. وأقولها بوضوح، اللغة العربية اليوم أصبحت تعلم في الدول العربية للعرب على أنهم أجانب وليسوا مواطنين، والآن تسمع كثيرا في سوق اللغات من يروج للمرجع الأوروبي للغات وتطبيقه على اللغة العربية، وهي لغات بينها نسب وصلة رحم ولا علاقة للغات العالم ولا اللغة العربية بتلك المعايير إلا من باب العلم. والملاحظ نتيجة لذلك أنها أصبحت اللغات الأجنبية هي اللغات الوطنية بحكم الإحصاءات العلمية في المدارس والجامعات وسوق العمل، وفي الحياة اليومية، وذلك نتيجة غياب الوعي بأهمية اللغة، واللغة من أدوات السيادة وأهم رموزها، وليس لدينا مراكز بحث لغوية، لا للعربية ولا لغيرها كما هو موجود في الدول التي تتبع لها اللغات الرسمية الخاصة بها، التي تعتمدها من بين أدواتها السياسية للتوسع والانتشار والوصول وغيرها. وكل أقسام اللغة العربية في الجامعات العربية - بلا استثناء- أقسام تدريس وأكثرها فيها معارك طاحنة بين أهل النحو وأهل الأدب، وبين خريجي الجامعات الوطنية والعربية وخريجي الجامعات الأجنبية. اللغة العربية لغة كلام رب العالمين ولها قصتها وهي جزء من مشروع رباني فوق مستوانا نحن أتباع الدين الإسلامي، كما أنها لغة الطب والهندسة والفلك والنحو والبلاغة والنقد والإبداع في كل التخصصات، بل إنها لغة رياضيات وجبر وعلوم. وقضية اللغة العربية بسيطة جدًا، فالحكم عليها في سوق اللغات يجب أن يكون بدفاع السياسي العربي عنها مثل السياسي الغربي والشرقي وليس الأكاديمي أو الإعلامي، لأنها من مكونات الدولة وأدوات الحكم والإدارة وإيجاد المواطن الصالح، أرجوكم قبل فوات الأوان.