يقضي الإنسان عمره في الحياة سنين معدودة، يتقلب فيها حيث يشاء بإرادته لتحقيق مقاصده، ونشر تصوراته ومبادئه، إن كان ذا باع علمي وعمق معرفي وقدرة على تحصيل أزمة العلوم وضبط كلياتها والإلمام بجزئياتها. وتنحصر- غالباً- هذه السنون المعدودة في ما لا يتجاوز المئة سنة إن لم تكن أقل، وتلك السنون التي يحياها هذا الإنسان يقضيها ما بين متنقل بين طلب لمعاشه وقوام حياته، وما بين طلب لما يحيي عقله الذي يتصل بغذائه الروحي، ذلك أن العقل هو المحرك الرئيس لجميع الرؤى والتصورات التي تسير ذلك الإنسان. فإن كان ذلك العقل قد تغذى على العلوم والمعارف والثقافات، حصل عليها من طرقها الحقيقية والصحيحة، فإنه سيقود ذلك الإنسان إلى طرق السمو والرفعة التي تترفع عن كل ما يسيء لبني البشر، بل سيكون مفتاحاً للخير ومغلاقاً للشر. ولا شك أن ذلك العقل هو الصورة الحقيقية لكل تصرفات الإنسان الظاهرة، وهو المخزون الحقيقي الذي يظهر الوجه الصادق للتصرفات والأفعال، فإن كان ذلك المخزون العقلي لا يحتوي على أصول المعرفة وأركان العلم، فإنه سيتخبط في فضاءات مختلفة ويميل إلى الاعتقادات الفاسدة، وذلك لتوهمه بأنه قد علم وحصل العلوم دون أن يبذل في تحصيلها الطريق الصحيح، فينتج عن ذلك الخطأ الفادح في صورة التعالم وادعاء القدرة على فعل أمور لا يمكن تحقيقها إلا بعد عرك السنين ومطارحة وملازمة أهل العلم والمعرفة بمعية كتبهم التي بذلوا فيها عقودا طويلة، أمضوا جل أعمارهم في تحصيل تلك المعارف والعلوم. ومن مظاهر ذلك التعالم الذي طالما أرقني كلما رأيته أو سمعته وخصوصاً في معارض الكتاب المنتشرة في أنحاء المعمورة ومنها بلادنا المستقرة الآمنة. ولقد كانت تأسرني رؤية أولئك الشبيبة من الفتيان والفتيات، الذين يظهرون أمام الملأ دون وجل ولا استحياء، بأنهم قد باحوا بمكنونات عقولهم ومعارفهم كي يقدموا للبشرية تلك المؤلفات وهم لا يزالون أغرارا حدثاء الأسنان!! فلما ينظر المرء ويتأمل تلك المؤلفات وأعمار من كتبها يجد أنه أمام غر صغير لم تتجاوز سنوات عمره مدة إنشاء معارض الكتاب الحديثة في بلادنا، وفي الغالب الأعم لا تتجاوز أعمار أولئك الكتبة عقدين ونيف (حتى إن لفظة الكتبة كبيرة على أولئك المتعالمين لأن الكتبة فيما مضى كانوا بالنسبة لهؤلاء علماء في اللغة وعلوم المنطق والشريعة). ومما يدمي القلب تلك القصص التي سمعناها ورأيناها من رجالات التربية والتعليم ومن المحققين النقاد الذين أفنوا أعمارهم في العلم والمعرفة، ولما يخرج أحدهم كتاباً إلا بعد عقود طويلة أمضاها في التحقيق والتحصيل وضبط المعرفة والعلم!! ومن تلك القصص أن أحد أهل العلم وجد تلميذاً كان بليداً في الدراسة، يتأهب كي يوقع كتابه الثالث الذي ألفه في مدة ثلاثة أشهر! وتلك آفة الآفات قد أصابت عصرنا وجعلته مليئاً بهذا الغثاء الذي رمى أطراف حباله فوق كل زوايا الثقافة والمعرفة، مما أصاب ثقافتنا ومعرفتنا بالضعف، وعدم المقدرة على الإبداع وخلق التطور والنمو في المجتمعات. فالعلم كما قال المعتزلي إبراهيم النظام «لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فأنت من عطائه لك البعض على خطر». وقال القاسم بن بريه الرقي «العلم أشد المعشوقين دلالاً، لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، وأنت إذا أعطيته كلك على غرر من إعطائه لك البعض». وقال يحيى بن أبي كثير «لا يستطاع طلب العلم براحة الجسم»، ولقد غفل أولئك الأغرار حدثاء الأسنان عن أن التأليف والكتابة مرحلة لاحقة بل هي في نظري من آخر مراحل العلم والمعرفة، ذلك أن طالب العلم والمعرفة يقضي عقوداً في الطلب والتحصيل وتوسيع مداركه وفهم أصول المسائل وكلياتها ومعرفة مدارك الخلافات ومرامي ومقاصد أهل كل فن من الفنون، لذا تجد كثيراً ممن تسنم هذا الطريق لا يزال لا يستطيع أن يقيم الحرف العربي وتراكيب الجملة الاسمية وترتيب الجمل الفعلية، ناهيك بسماعه بعلم الصرف، هذا في شأن اللغة والنحو والصرف والعربية عموماً، فكيف بباقي العلوم!! حتى إن من يكتب في مطلق العلوم وفي قضايا اجتماعية، يتوجب عليه أن يعي أصول المعرفة والعلم وضبط مدارك الفلسفات والنظريات، بل إن الكتابة في الشؤون العامة من أخطر أنواع الكتابة، ذلك أنها تتطلب ممن يمارسها أن تكون لديه مدارك وعمق نظر في اللغة، وهضم لعموم نظريات الفلسفة ومدارسها وشؤون الشريعة ومقاصد الفقه، حتى يكون مكتوبه بيناً واضحاً ومقروءاً، وتكون مادته فيها من أسباب التأليف التي نص عليها أهل العلم وهي «إما أن يؤلف في شيء لم يسبق إليه ويخترعه، أو شيء ناقص يتممه، أو شيء مستغلق يشرحه، أو طويل يختصره، دون أن يخل بشيء من معانيه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مصنفه يبينه، أو شيء مفرق يجمعه»، ولخص ذلك بعضهم بقوله «شرط المؤلف أن يخترع معنى أو يبتكر مبنى». واختم بقول الإمام الشافعي «إذا تصدر الحدث فاته علم كثير» «لأن الحدث أبداً أو في غالب الأمر غر لم يتحنك، ولم يرتض في صناعته رياضة تبلغه مبالغ الشيوخ الراسخين الأقدام في تلك الصناعة». فهوس التأليف بلية ومصيبة وفتنة لا لعاً لها، فحري بهؤلاء الشبيبة أن يتركوا التأليف حتى ترسخ أقدامهم في العلم والمعرفة، ثم بعد ذلك يبادروا إلى الكتابة إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً.