لا تزال ذاكرتي تحتفظ بعدد لا بأس به من العبارات التراثية التي تركت في نفسي أعمق الأثر حين قرأتها أو سمعتها للمرة الأولى، ووجدت فيها تجسيداً لما يدور في وجداني من مشاعر وفي عقلي من مبادئ، فتعلقت بهذه العبارات، وحفظتها من دون عمد، وجعلت منها ذخيرة أعود إليها، أو تعود هي إليّ، عندما يعرض حادث يهزني من الأعماق، ويدفعني إلى التعزي بأمثال هذه العبارات، أو أجد نفسي في موقف يستدعيها لاشعورياً، فتتدافع إلى سطح الوعي، فارضة حضورها بدلالاتها التي تتجاوب وما أنا فيه، فتبدو كما لو كانت تلخيصاً لموقف، أو علامة إصرار عليه، أو تقديراً لسلوك، أو احتفاء بقيمة غالية، أو إضاءة لسيرة حياة استثنائية لا يجود بمثلها الزمان إلا على سبيل الندرة. وقد تعيد ذاكرتي إنتاج هذه العبارات، فتقوم بتعديل تركيب أو استبدال كلمة بأخرى، ولكن من غير تأثير في الدلالات التي تتجاوب أصداؤها كأنها الإطار المرجعي لبنية القيم في داخلي. ولذلك، وجدتني أسترجع بعض هذه العبارات من غير أن أدري فور أن أفقت من الصدمة الأولى المربكة للحزن الذي انتابني عندما أبلغني الصديق العزيز عبده وازن بوفاة إحسان عباس، وما إن هدأت هزة الصدمة، وأخذ الحزن العميق يتغلغل إلى قرارة القرار من الوعي، حتى اندفع من الذاكرة بيت لبيد الذي يقول: ذهب الذين يُعاشُ في أكنافهم وبقيت في خَلَفٍ كجلد الأَجْرَبِ فبرحيل إحسان عباس يختفي واحد من الذين يُعاش في أكنافهم، طلباً للتلمذة العلمية والرعاية الفكرية والحماية الروحية، أو سعياً وراء إخوة الصفاء ومتعة الحوار وصفاء البصيرة وشمول المعرفة، واحد من الذين يُلاذُ بهم في مواجهة الجهالة المتزايدة والغثاثة المتكاثرة لفهاهة الأفهاء من الأساتذة الزائفين، والعلماء الكاذبين، والجامعيين المنافقين، خصوصاً في زماننا الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، واحتل فيه الدجالون مواضع أهل العلم والفضل. لقد كنت أزور إحسان عباس في عمّان، كلما ذهبت إليها، فأزداد بلقائه إيماناً بمعنى أن يخلص الإنسان لرسالته العلمية والثقافية، وإيماناً بقيمة العلم الذي لا يمنح كنوزه لباحث إلا إذا قطع هذا الباحث ما بينه ومباهج الدنيا الزائفة، وترهبن في طلب العلم، مفرغاً قلبه وعقله مما عداه، فأعطى العلم كل ما يملك، كي يعطيه العلم بعض ما يملك، فما يملكه العلم لا حد له ولا نهاية، واتساعه باتساع الزمان والمكان على إطلاقهما، أما ما يملكه الباحث - أي باحث - مهما أعطى من نفسه وعقله، فمحدود بقدرته الإنسانية، ومرهون بسنوات حياته المعدودة على هذه الأرض. وقد رُويَ عن إبراهيم بن سيَّار النظام قوله: "العلمُ لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك". وما أندر الذين أعرفهم ممن أعطوا العلم كل شيء في حياتهم، سواء من بين أساتذة الجامعة وزملائها أو أساتذة الحياة ورفاقها، فتلك رتبة لا يصل إليها إلا الأفذاذ الذين صفت أرواحهم وشفّت عقولهم ولم يشغلهم عن العلم شاغل. وإحسان عباس واحد من هذه القلة النادرة التي وهبت للعلم حياتها، وأخلصت الولاء لرسالته، فكافأها العلم بالكشوف التي تصنع علامات معرفية لا يمكن نسيانها أو تجاهلها، في فضاء العلم الذي لا نهاية له أو حدّ، فالمسيرة البحثية لإحسان عباس 1920-2003 استثنائية في ريادتها، وتعدد مجالاتها، وتنوع اهتماماتها. ولولا ذلك ما استطاع أن يكتب في الشعر العربي الحديث والمعاصر ما كتبه عن "عبدالوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث" 1955 وعن "بدر شاكر السياب" 1978، أو يكتب عن الشعر العربي في المهجر 1957 مع زميله محمد يوسف نجم - أطال الله في عمره، ولا أن يصل الشعر العربي بفن السيرة 1956، ولا أن يكتب في التراث ما كتبه عن الحسن البصري 1952 وأبي حيان التوحيدي 1956 والشريف الرضي 1959 والأدب الأندلسي 1962، ولا أن يحقق ما حقق من رسائل أبي العلاء المعري 1950 ورسائل ابن حزم الأندلسي 1955 وكتاب التقريب لابن حزم الرصافي البلنسي 1960 وديوان القَتَّال الكلابي 1961 وديوان لبيد بن ربيعة العامري 1962 وشعر الخوارج 1963. وأضف إلى ذلك تحقيق "الكتيبة الكامنة" لابن الخطيب 1963 والأجزاء الثمانية من "وفيات الأعيان" لابن خلكان 1968-1972 و"طبقات الفقهاء" للشيرازي 1970 ناهيك عن "التذكرة الحمدونية" لابن حمدون و"معجم الأدباء" لياقوت الحمويي و"كتاب الخراج" لأبي يوسف. ولا يمكن إغفال التحقيقات التي اشترك فيها مع أساتذته، أو زملائه، مثل تحقيق "خريدة القصر" قسم مصر للعماد الأصفهاني الذي اشترك في تحقيقه 1952 مع أستاذه أحمد أمين وزميله شوقى ضيف - مدّ الله في عمره، وكذلك "فصل المقال في شرح كتاب الأمثال" للبكري 1958 بالاشتراك مع زميله عبدالمجيد عابدين و"جوامع السيرة" لابن حزم الأندلسي بالاشتراك مع ناصر الدين الأسد - مدَّ الله في عمره. ولا أنسى دراسته التي لم يكتب مثلها أحد إلى اليوم، سواء في موسوعيتها، أو شمولها، أو عمق نظراتها، أو حداثة مقارباتها. أعني دراسته عن "تاريخ النقد الأدبي عند العرب: نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري" التي تعد أشمل وأكمل مرجع في موضوعها إلى اليوم. وأقيس على ذلك دراساته الكاشفة عن تأثير الأدب اليوناني في الأدب العربي. وهي الدراسات التي تكشف عن تأصُّل عنصر المقارنة في إنجازات إحسان عباس التأليفية في الدراسات الأدبية والنقدية، الأمر الذي ساعده عليه معرفته العميقة بالآداب الأوروبية - القديمة وتعمقه في دراسة الأدب العربي ونقده قديماً وحديثاً. وقد ظل إحسان مترهبناً للعلم وحده، لا يشغله عنه شاغل إلى أيامه الأخيرة، فما قابلته مرة إلا وحدثني عن عمل يشغله، تحقيقاً أو تأليفاً، خصوصاً بعد أن ترك هموم الترجمة لشقيقه بكر الذي كان لوفاته أعمق الأثر في نفسه، واكتفى هو بما ترجم من أعمال تدخله في دائرة المترجمين العظام. وقد أبلغني - قبل أن يشتد عليه المرض ويقعده عن متابعة إنجازاته - أنه يعمل في كتابة تاريخ شامل لبلاد الشام، شرع في كتابته منذ أن استقر به المقام في العاصمة الأردنية، وأنجز منه ثمانية أجزاء، وصلت بتاريخ بلاد الشام إلى مشارف العصر العثماني. ولم يكتف إحسان عباس بالكتابة عن التراث الأدبي والنقدي القديم، أو الاهتمام البحثي بالأدب الحديث وقضايا الشعر المعاصر خصوصاً، أو الاستغراق في تحقيق التراث الذي كان ينطوي على عشقه منذ سنواته الجامعية الباكرة، في أواخر الأربعينات ومطالع الخمسينات، فقد تخرج في قسم اللغة العربية بكلية الآداب - جامعة القاهرة سنة 1949، قبل أن يحصل على درجة الدكتوراة من القسم نفسه سنة 1952. وعمل ضمن فريق تحقيق التراث الذي أشرف عليه طه حسين، ورعاه أحمد أمين، وضم إلى جانب إحسان عباس أسماء أعلام بارزين من أبناء جيله مثل شوقي ضيف وعبدالحميد عابدين وعبدالعزيز الأهواني وغيرهم. أقول لم يكتف إحسان عباس بهذه الجوانب البحثية التي ذكرتها، بل أضاف إليها جهد الترجمة الذي شعر بأهميته القصوى في استكمال مجالاته البحثية واهتماماته الفكرية والأدبية. ولذلك ترك لنا ترجمته لكتاب أرسطو "فن الشعر" التي اعتمد فيها على الترجمات الإنكليزية، وذلك في جهد موازٍ للجهد الاستثنائي الذي قام به زميله شكري عياد الذي ترجم الكتاب نفسه عن الأصل اليوناني مع تحقيق الترجمة القديمة المنسوبة إلى متَّى بن يونس. وأصدر إحسان عباس إلى جانب "كتاب الشعر" لأرسطو ترجمة كتاب ستانلي هايمن "الرؤية المسلَّحة" تحت عنوان "النقد الأدبي ومدارسه الحديثة" مع زميله محمد يوسف نجم الذي راجع له ترجمته كتاب الناقد الأميركي ديفيد ديتشس "مداخل نقدية لدراسة الأدب" تحت عنوان "مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق". وكان ذلك في نوع من التعاون الذي أبان عن تأثر الزميلين بأفكار حركة "النقد الجديد" في الولاياتالمتحدة، وهي الحركة التي أخذت اسمها من عنوان الكتاب الذي أصدره الناقد الأميركي جون كرو رانسوم سنة 1941، وأحدثت تأثيراً كبيراً، خصوصاً عند الذين أرادوا التركيز على أدبية الأدب والكشف عن قيمه الجمالية. وقد أعاد جيل إحسان عباس إنتاج أفكار "النقد الجديد"، التي بدت واعدة، واستخدمها نقاد الجيل في بلورة أفكارهم عن الحداثة الأدبية عموماً، وعن حداثة الشعر العربي الحديث خصوصاً، تلك الحداثة التي كان الشاعر الأميركي الأصل الإنكليزي الموطن ت. إس. إليوت نموذجاً أساسياً من نماذجها المحتذاة في علاقات التأثر والتأثير. وأتصور أن هذا المنحى من الاهتمام هو الذي جعل إحسان عباس يقدم ترجمته لكتاب ماثيسن عن "ت. إس. إليوت الشاعر الناقد". الذي لم يكن بعيداً عن أفكار "النقد الجديد". وهو كتاب لعب مع غيره من الكتب مثل كتاب إليزابث دور "الشعر: كيف نفهمه ونتذوقه" الذي ترجمه محمد إبراهيم الشوش سنة 1961، وكتاب أرشيبلد ماكليش "الشعر والتجربة" الذي ترجمته سلمى الخضراء الجيوسي سنة 1963، وكتاب م. ل. روزنتال "شعراء المدرسة الحديثة" الذي ترجمه جميل الحسيني سنة 1963 دوراً مهماً في إشاعة مفاهيم ظلت لها سطوتها عن الحداثة عموماً، والحداثة الشعرية خصوصاً. لكن يبقى لإحسان عباس أنه لم يقصر معرفته عن حداثة الشعر على نموذج إليوت وحده، فقد جاوزه إلى غيره من النماذج على نحو ما يظهر في تحليلاته المقارنة بين شعر السياب ومصادره الإنكليزية، أو إرجاع بعض تيارات الشعر المعاصر إلى أصولها الفرنسية. وسعى إلى وصل الحداثة بمبادئ الالتزام الأدبي التي يفهمها فهماً جامداً كما فعل ابن جيله عبدالعظيم أنيس في نقده الدوغمائي المنغلق لروايات نجيب محفوظ، فقد ظل معنى الالتزام عند إحسان عباس قرين الوعي بعوامل التولّد الاجتماعي التي تترك بصماتها بمعنى من المعاني على الأعمال الأدبية من حيث هي استجابة إبداعية لشروط تولّدها. ولكن في نوع من التكييف الذي يربط الشعر ونقده بالجوانب الفكرية - أو الفلسفية - للثقافة أكثر من المجتمع بمعناه الطبقي الماركسي. وهو التكييف الذي دفع زميله شكري عياد إلى تصنيفه بوصفه مفكراً مثالياً على النمط الهيغلي، لا مفكراً مادياً على النمط الماركسي. وقد فسّر شكري عياد بهذا التصنيف إعراض إحسان عباس المقصود - في كتابه "اتجاهات الشعر العربي المعاصر" - عن المنحى الشائع لدى النقاد، حتى وقت صدور الكتاب، من تصنيف الشعراء إلى "تيارات" على أساس من الموقف الاجتماعي أو الانتماء الطبقي. وقد يدعم وجهة نظر شكري عياد ما نلاحظه من أن ترجمات إحسان عباس لم تكن مقصورة على النقد الحداثي أو حركة الحداثة الأدبية في ذلك الوقت فقد وصلت ذلك بعلاقة الأدب بالفلسفة، وهي العلاقة التي أثمرت ترجمة كتاب "مقال في الإنسان" للفيلسوف إرنست كاسيرر إن لم تخني الذاكرة في السياق الأوسع الذي ضم إلى ترجمة كتاب فون جرونباوم "دراسات في الأدب العربي" 1959 ترجمة كتاب هاملتون جب "دراسات في حضارة الإسلام" 1962 وكتاب جورج أنطونيوس "يقظة العرب" في السنة نفسها. وقد أدهشني الثراء الاستثنائي الكمي والكيفي لمؤلفات إحسان عباس عندما راجعت مؤلفاته كلها، كاملة للمرة الأولى. وكان ذلك في العام الذي رشحته جهات عديدة لجائزة سلطان عويس التي اشتركت في تحكيم فرع الدراسات الأدبية منها، ولم أجد منافساً يرقى إلى قامة إحسان عباس الذي كنت أظن أنني على معرفة بما نشره، فإذا بي أمام أسماء مؤلفات وأبحاث ومراجعات وتحقيقات وترجمات لم أكن أعرفها من قبل، فأدركت معنى إضافياً من معاني الرهبنة العلمية التي تجسّدت بها وفيها حياة إحسان عباس الذي أعطى كلَّه للعلم، فأعطاه العلم الكثير من كنوزه التي لم يتحها لغيره. وعندما أتأمل هذه الكنوز التي أسهمت في تكوين أبناء جيلي، والأجيال اللاحقة، ألحظ أول ما ألحظ الخاصية المتكررة عند الرواد المؤثرين من كبار مثقفي النهضة، أقصد إلى الخاصية التي يتجاوب بها القديم والحديث، الشرق والغرب، علوم الأوائل وعلوم الأعاجم، التراث والمعاصرة، وذلك في نوع من المصالحة بين الأضداد، أو تحقيق "رؤية مسلحة" إذا استعنا بمصطلح ستانلي هايمن في خاتمة كتابه الشهير الذي ترجمه إحسان عباس. وإذا كان معنى "الرؤية المسلحة" ينطوي على دلالة التوفيق الإيجابي، فإن هذه الدلالة لا تنفصل عن هدف الفائدة التي تتحقق في الوصل بين المعارف. وهي الفائدة التي قصد إلى شيء منها أبو عثمان الجاحظ عندما أوضح أن المتكلم المختص بعلوم الكلام الإسلامية لا يكون متمكناً من فن الكلام إلا إذا كان ما يحسنه من كلام الدين في وزن ما يحسنه من كلام الفلسفة. وذلك معنى يتصل بتضافر الاختصاصات الذي كان سمة من سمات إحسان عباس، ابتداء من جمعه بين المجالات المتضادة أو المتباعدة التي لا تجتمع إلا عند أمثال العقاد وطه حسين، وليس انتهاء بوعيه الفكري الذي لم يكن يخلو من عناصر تضافر الاختصاصات التي تؤكد وحدة المنظور النقدي حتى في تأسسه على تنوع المجالات البحثية. وفي هذا الجانب، يبدو إحسان عباس أكثر انتماء إلى الجيل الموسوعي السابق عليه منه إلى الأجيال اللاحقة التي سجنت نفسها في الحدود الضيقة لما يعرف باسم "التخصص العلمي الدقيق".