نتذكر الإمام الغزالي اليوم ونحن على بعد أيام من الذكرى ال911 لرحيله وهو العالم والمفكر والفقيه والفيلسوف، وكما يقول شيخ الأزهر مصطفى المراغي «إذا ذكر أبو حامد فأنت أمام علماء وفنون وعلوم كثيرة...» إن الغزالي جدير بأن يكون بطلاً في العقل الجمعي العربي وكان يمكن أن تحقق السينما العربية ذلك فضلاً عن أن قصة مثل قصة الغزالي لو جسدتها السينما العربية لحصدت كثيراً من الجوائز، يبدأ طفلاً يتيماً ثم يتعلق بالعلم والمعرفة وعشق البحث عن الحقيقة ليصبح أحد أكبر العلماء ثم يمر بأزمة فكرية تجعله يترك كل ماله وأهله ويقوم برحلة روحية نحو عشر سنوات ينهيها قبل موته بسنوات قليلة، يقال إن الغزالي أكثر شخصية إسلامية كتب عنها غير المسلمين بعد رسول الله. لم يعش الغزالي أكثر من 54 عاماً ملأ الدنيا خلالها علماً وفكراً، وتعرف الغزالي عندما تجد مفكراً عظيماً مثل العقاد يقول: «لم يعرف لا المشرق ولا المغرب مفكراً ذا ملكة فكرية كالتي تمتع بها الغزالي». وتعرف الغزالي عندما تجد عالماً فيزيائيا كبيراً مثل البروفيسور محمد باسل الطائي يتحدث بإعجاب عن فكر الغزالي في قضايا فلكية وفيزيائية مثل: التعامل مع الزمان والمكان على صعيد واحد، وإجازة الغزالي توسع الكون أو انكماشه، والكثير من القضايا من هذا النوع وهذا الحجم. ولا يجب دراسة الغزالي أو غيره بمعزل عن الظروف التي عاش فيها، وممن درس الغزالي بهذه الطريقة الفيلسوف الكبير ول ديورانت، وقد قال في سياق ذكر هذه الظروف التي تفشى فيها الإلحاد بشكل كبير «وكان رد الفعل الذي نتج من هذه الحركة المتشككة هو ظهور أبي حامد الغزالي أعظم علماء الدين المسلمين، الذي جمع بين الفلسفة والدين، فكان بذلك عند المسلمين، كما كان أوغسطين وكانط - عند- الأوروبيين» ويضيف ديورانت «أنزل الغزالي العقل- قبل أن ينزله هيوم Hume بسبعة قرون- إلى مبدأ العلية، وأنزل مبدأ العلية نفسه إلى مجرد التتابع إذ قال إن كل ما ندركه هو أن ب تتبع أ على الدوام، ولا ندرك أن أ هي علة ب» إنه لمن المؤسف أن شخصية بهذه العظمة ليست من أبطال العقل الجمعي العربي، بل إن كثيرين لا يعرفون عن الغزالي غير ما قاله نيل تايسون في إحدى المحاضرات التلفزيونية الأمريكية قال: إن سبب تعطل العقل المسلم هو قول الغزالي «إن التعامل مع الأرقام هو من عمل الشيطان»! وقد رد كثيرون على هذا الزعم وعلى رأسهم البرفسور محمد باسل الطائي، وكذلك بحث الطائي لاحقاً عن أصل هذه الفرية ووجد تفسيراً لها وهو: أن المترجم ريتشارد مكارثي قد ترجم كلمة آفة إلى كلمة شيطان evil! في عبارة ينبه الغزالي فيها إلى محاسن العلوم الرياضية وما يمكن أن يكون من آفاتها، وهكذا شوه تراث الغزالي الأصيل. أضاف الطائي في رده «أن النقمة التي لم تزل قائمة في الغرب على الغزالي سببها أساساً نقده لفلاسفة اليونان ومن تبعهم من المسلمين ودحضه- بأسلوب عقلي رصين- لكثير من أطروحاتهم، لكن لا بد من القول إن باحثين منصفين قاموا أخيراً بالدفاع عن أبي حامد وفلسفته ومنهم فرانك غريفل Frank Griffel الذي كتب كتاباً رصيناً عن فلسفة الغزالي بعنوان Al-Ghazali»s Philosophical Theology ونشر أبحاثاً عديدة عن منجزاته. وفي كتابي دقيق الكلام: الرؤية الإسلامية لفلسفة الطبيعة شطر من منجزاته وأفهامه للزمان والمكان والكون والتناظر ومصير الشمس وغيرها من المسائل التي تكشف عن عبقرية الغزالي وتقدمية فكره في المسائل الطبيعية» تفتقت عبقرية الغزالي منذ صغره وعندما كتب كتابه «المنخول» وهو لا يزال في بداية شبابه تلميذا عند العالم الكبير إمام الحرمين الجويني قال الجويني «رحمك الله لقد دفنتني حياً هلا صبرت حتى أموت» يقصد أن كتابه غطى على كتاب الجويني «البرهان» بالمناسبة الغزالي كتب لاحقاً كتابه المستصفى وتراجع عن بعض آرائه في «المنخول» وتجاوزه وهذه من سمات الغزالي وسمات كل متحرر من الدوغمائية وقد قال ابن خلدون «أعظم كتب الأصول البرهان للجويني والمستصفى للغزالي» وقال فيه شيخه الجويني: الغزالي بحر مغدق. وقال ابن كثير: الغزالي كان من أذكياء العالم في كل ما يتكلم فيه، وقال فيه أسعد الميهني: لا يصل إلى معرفة علم الغزالي وفضله إلا من بلغ أو كاد يبلغ الكمال في عقله وطبعاً هناك من خالفه وانتقده مثل ابن تيمية ورأيه في الغزالي معروف وانتقده مجموعة من العلماء على رفع شأن الفلسفة مثل أمام المالكية أبو عبدالله المازري وأبو بكر الطرطوشي، أما شيخ الإسلام ابن صلاح فقد انتقد الغزالي على إدخاله المنطق في علم أصول الفقه! تقديرنا للإمام الغزالي لا يعني أننا نقول إنه لم يخطئ أو أن كل ما قاله صحيحاً فنقع في الدوغمائية التي نحذر منها، ولكن نقول إن هذه الشخصية مناسبة لأن تكون قدوة وأحد أهم أبطال العقل الجمعي العربي، وفي الوقت نفسه مثالاً على الإنسان المتحرر من الدوغمائية، فالغزالي خير مثال محارب للدوغمائية في تاريخ الإسلام، ما أحوجنا إلى مثل هذا المبدأ للغزالي «الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر، بقي في العمى والضلال» وما أحوج علماءنا للسير على رؤيته «إن التكفير هو صنيع الجهال، ولا يسارع إلى التكفير إلا الجهلة، فينبغي الاحتراز من التكفير ما وجد الإنسان إلى ذلك سبيلا» يفترض أن تكون دراسة أسباب تأخر العقل العربي من أولى وأهم المواضيع لدى المفكرين العرب، لأن العلاج يسهل إذا عرف المرض، وتلك الدراسة يجب أن تكون مبنية على حقائق ووقائع لا على الهواء مثل رأي من يرى أن الغزالي سبب تأخر العقل العربي فهذا رأي لا يربطه بالتاريخ والواقع أي قرينة، بل المطلوب الدراسات التي تبنى على وقائع وأرقام ومقارنة وقياس مثل دراسة الفيلسوف الراحل عابد الجابري وغيره.