في ظلِّ العطاء العلمي الذي تحتضنه المؤسَّسات التعليميَّة، وبشكل خاصٍّ المؤسَّسات الأكاديميَّة، ومع استمراريَّة البحث العلمي، الذي يعدُّ مطلبًا من مطالب الترقية، وشرطًا للحصول على الدرجات العلميَّة عند منسوبي المؤسَّسة الأكاديميَّة، من أعضاء هيئة تدريس وطلاب الدِّراسَات العليا، ذلك الإنتاج الذي يفترض أن يُغلَّف بوعي ناتج عن أهميَّة المرحلة وقداستها؛ طغت على السطح ظاهرة دخيلة، لم يُعهد لها في البيئة الأكاديميَّة، وهي ظاهرة «شيخ القبيلة وقومه»، إذ شهدت بعض الجامعات السعوديَّة عددًا من الأبحاث الجادَّة التي يزفُّها شيخ القبيلة قبل الباحث المعدِّ لها، للجنة التحكيم في المناقشات العلميَّة، وازدحمت قاعات النقاش بذوي الباحث وشيخ قبيلته ورجالاته، مع أنه يُفترض أن تضمَّ هذه قاعات طلاب وطالبات العلم الذين هم أحوج لتلك المناقشات والمحاورات، فباتت القاعات وكأنها مناسبة اجتماعيَّة، وللناظر أن يسميها التسمية التي يهوى حسبما يرتسمها ذهنه: حفل زواج، أو واجب عزاء، أو مراسيم تنصيب ولاية أحدهم. وترى الأعين حينها طلاب العلم على مشارف أبواب قاعة النقاش، مهمَّشين دون أدنى أهميَّة لشغفهم المبلَّل بخيبة التوقُّعات، فلا نقاش الباحث وجوابه أرضى شغف السؤال، ولا سنحت الفرصة للاستماع، وسط تهاتف أصوات الحاضرين الذين لم يكن لهم غاية سوى تمجيد ابن قبيلتهم، ذلك الذي سيتوَّج بتاج الدرجة العلميَّة- ماجستير أو دكتواره- بعد هذا الحفل مباشرة، مثلما كانت تفعل القبيلة في العصر الجاهلي، إذ متى نبغ شاعر لها دقُّوا له الطبول، وأعلوا من شأنه؛ فهو المخلِّد لتاريخها، والمسجِّل لانتصاراتها، وهو لسان حال قبيلته، يعبر عنها وينطق بلسانها، وفي ذلك يقول ابن رشيق في «باب احتماء القبائل بشعرائها»، في كتابه «العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده»، يقول: «كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر، أتت القبائل فهنأتها، وصُنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذبٌّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج». وصاحبَ تلك الظاهرة، المبالغة في تقدم أصناف الضيافة، يودُّ أحدهم لو يقدِّم ما لذَّ وطاب على أوانٍ من ذهب، مثلما فعل أسياد العصور الغابرة؛ تقديرًا منه لقبيلته وشيخها، فهو الذي ترك أعمال قبيلته، لحضور تلك المناقشة العلميَّة التي ربما يغيب عنه مآتيها، تلك المناقشة التي قد تُضيف لباحث الدِّراسَات العليا أكثر من غيره، الذي حارت عيناه، واستصعبت أذناه سماع النقاش عند مشارف أبواب قاعة النقاش، وسط ذلك الضجيج. وفي ظلِّ غياب الوعي تجاه هذه الظاهرة، تبقى هناك عدَّة أسئلة مشروعة، تفتقر للإجابة، منها: ما الدور الذي يضيفه شيخ القبيلة وقومه بحضورهم مثل تلك المناقشات العلميَّة، وما العائد على الباحث بعد ذلك الحضور، وما المأمول منه تجاه قبيلته؟ وما موقف الجامعات حيال تمدُّد هذه الظاهرة، وكيف يتم الحدُّ منها؟ كل تلك الأسئلة التي تطرح نفسها، وتجول في أذهان الباحثين، تنتظر نظرة تصحيح من الجامعات السعوديَّة، والمعنيين في هذا الجانب؛ من أجل أن تصبح القاعات الجامعيَّة مكانا للمناقشات العلميَّة الجادة، لا مكانًا للاحتفالات والفاعليات الاجتماعيَّة. * كاتبة وأكاديمية سعودية .