عبدالوهاب بدرخان خلال يومين يحلّ الرئيس جو بايدن في المنطقة، وليس واضحاً إذا كانت زيارته مؤشر «عودة» أمريكية إليها، بجدّية ونظرة جديدة، فمحطته الأولى في إسرائيل تبدو أقرب الى اجتماعات عمل داخل أمريكا. أما الانتقال منها مباشرةً الى السعودية فغدا تفصيلاً باهتاً، حتى لو أضفيت عليه حمولات رمزية مضخّمة. وعندما يحلّ الرئيس الأمريكي في السعودية، فهذا يعني أنه أصبح فعلاً في المنطقة، لأن المنطقة عربية. ومع أن بايدن منتَظَرٌ جداً، إلا أنه ملزمٌ بإدراك مسبق بأن التوقعات العربية باردة وبلا أوهام، وهي كذلك نتيجة عقود طويلة من خيبات الأمل. فالقادة العرب يعرفون أن واشنطن تبقى ملتزمة سياستها المرسومة الطامحة للابتعاد، عن الشرق الأوسط والخليج، لكن متغيّرات دولية وإقليمية لا تلبث أن تعيدها إليهما، وذلك لأن واشنطن فتحت الكثير من الملفات والنزاعات في المنطقة، ولم تفكّر في إغلاق أي منها قبل أن تغادر. كل المصادر الأمريكية الرصينة أكّدت في الأسابيع الأخيرة أن الشرق الأوسط، لم يكن وجهة مفضّلة لبايدن، لكن مواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا وأزمة الطاقة في أوروبا، والحاجة إلى الواردات الخليجية، حتّمت عليه أن ينسى أن سلفه المهووس بإيران، باراك أوباما، كان لا يرى المنطقة إلا بمنظار نظام الملالي، وذهب إلى حدّ التقليل من أهمية النفط العربي في الاقتصاد العالمي، بل إنه شطب تأثيره من الإستراتيجيات الأمريكية. لم يكن هذا التقدير الأوبامي الخاطئ، يطابق رأي روسيا، أو الصين التي يركّز رؤساء أمريكا منذ عقدين على مواجهتها، ولذلك عزّزت الدولتان مصالحهما مع دول الخليج التي كان عليها أن ترحّب وتنفتح على «بدائل» من أمريكا، وهي تلمس الآن أن التطوّرات العالمية ماضية في تخصيب مكانة البدائل، بدليل الانقسام في الموقف الدولي من روسيا، على رغم ارتكابها غزو أوكرانيا. منذ الإعلان عن الزيارة المزمعة للرئيس الأمريكي، انبرت إسرائيل لمصادرة أهدافها ونتائجها مسبقاً، مصوّرةً أنها مخصصة فقط «لمواجهة إيران» ومتناسية أن بايدن لا يريد هذه المواجهة، بل متجاهلة أنه وإدارته يعيشان هاجسين مقلقَين: فمن جهة هناك أسعار الطاقة المرشّحة لأن تعصف بحظوظ الديمقراطيين، في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، ولأن تضعف تماسك التحالف الغربي الواسع ضد روسيا. ومن جهة أخرى، هناك علاقة متصدّعة بشكل غير مسبوق، بين وأمريكا وشركائها الخليجيين، خصوصاً السعودية، ولا بدّ من إعادتها إلى سابق عهدها، إذا أمكن ذلك. وهكذا اضطرت إسرائيل، أسبوعاً بعد أسبوع، إلى خفض توقّعاتها من الزيارة البايدنية: من «التطبيع» إلى «اختراق» على طريق التطبيع، ومن الإيحاء بأن «حلفاً اقليمياً» سينشأ وتحتل فيه إسرائيل مركزاً محورياً، إلى القول بأنه سيكون «تنسيقاً دفاعياً جوياً» أو «رادارياً»، وأخيراً إلى مجرّد الحديث عن «صفقات تسليح» مجزية. عكست التسريبات الإسرائيلية أن هناك تداولاً عميقاً للأفكار مع واشنطن، تحضيراً لزيارة بايدن الذي لا يمانع في أن تحقق إسرائيل مكاسب، إلا أن الأولوية تبقى عنده للمصالح الأمريكية، التي يُفترض أن تكون في طليعتها إعادة تصويب العلاقة مع السعودية. فالأمر في هذه الزيارة لا يتعلّق بإسرائيل، بل بأمريكا والسعودية ودول الخليج، وبالتالي بأمريكا والعرب، الذين تبالغ إسرائيل «كذلك أمريكا» بإظهارهم ك«ملحق» بملفها، أي بتحالفها مع أمريكا. مع عقلية كهذه بين الحليفين يصعب توقّع أي جديد إيجابي بين واشنطن والرياض، ف «التنسيق» أو «التحالف» أو «التعاون» الإقليمي يعني وجود طرفين، ويتطلّب الاعتراف بخصوصية كلٍ منهما قبل دعوتهما إلى العمل معاً، في إطار إستراتيجية تنخرط فيها الولاياتالمتحدة بالتزام كامل. يلتقي معظم الأبحاث التي اهتمّت أخيراً بالعلاقة السعودية - الأمريكية عند القول، بأن تأمين علاقات التعاون يرتبط عملياً ب «استعدادات» الولاياتالمتحدة ومدى «الجدّية» في التزاماتها الدفاعية سواء ضد التهديدات الإيرانية أو غيرها، والأهم التزامها «واجب» تمكين شركائها من تطوير قدراتهم العسكرية. والواقع أن دول الخليج استثمرت كثيراً في تعزيز تلك القدرات خلال العقدين الأخيرين، مستعينةً بموارد غير أمريكية، لأن «الشريك» الأمريكي كان يعرقل جهود هذه الدول بمحظوراته، فيما يترك إيران تتسلّح على نحو مفتوح ومتصاعد، ويحصر اهتمامه بمنعها من الحصول على سلاح نووي، لا تنفكّ تقترب من اقتنائه. لا يوازي الاعتماد الأمريكي لمبدأ التفوق العسكري الإسرائيلي الدائم، على المنطقة العربية كافةً، سوى هذا «التعايش» الأمريكي الذي بات مزمناً مع الترسانات الإيرانية، ففي الحالين يجد العرب أنفسهم مدعوين، للخضوع ل «قواعد لعبة» أمريكية لا ينفع في تغييرها لا «تطبيع» مع إسرائيل ولا «حوار» مع إيران. يدور جدل حالياً حول مشروع سمّي «ناتو عربي»، وكان العاهل الأردني أول من أشار إليه، في حديث متلفز، وسواء كان نسخة من «الناتو» الغربي أم لا، فالمهم أن يكون ممكناً على أرض الواقع، والأهم أن يكون «عربياً» فعلاً، وأن يعكس تماسكاً/ «تضامناً» عربياً كان مفقوداً ولا يزال البحث عنه جارياً. لا واشنطن ولا إسرائيل استخدمت مصطلح «الناتو» هذا، لكن وزير الدفاع الإسرائيلي أشار إلى «تحالف دفاع جوي»، وشرحت مصادر متنوعة ل «رويترز» أنه «منظومة مشتركة للرصد والاعتراض» وأنه بات «هدفاً محدّداً» سيدعمه بايدن خلال محادثاته المقبلة، لكن الطريق إليه لا يزال طويلاً. وفيما لم يأتِ الكلام، عن هذا «التحالف» من أي مصدر عربي، للتأكيد أو للنفي، أدلت طهران بأول رد فعل لتقول، إن خطط الولاياتالمتحدة وإسرائيل لعقد «اتفاق دفاع مشترك مع دول عربية لمواجهة تهديد الطائرات المسيرة والصواريخ الإيرانية، لن تؤدي إلا إلى زيادة التوتر في المنطقة». وتعرف إيران الكثير عن هذا التوتّر، لأنها بالغت في تصعيده إلى حدّ أنه، بالمقارنة مع ممارساتها، باتت إسرائيل تُعتبر «عنصر استقرار» في المنطقة. في مقال في «واشنطن بوست»، دفاعاً عن زيارته ضد معارضيها، كتب بايدن أنه يريد «تحقيق تقدّم» في منطقة «مليئة بالتحديات»، كالبرنامج النووي الإيراني والأوضاع غير المستقرّة في سوريا وليبيا والعراق ولبنان، وقال إن الولاياتالمتحدة يمكن أن تقوّي «الاتجاهات الواعدة» فيها «مثلما لا تستطيع أي دولة أخرى أن تفعله». لم يذكر فلسطين واليمن حيث يمكن أن يبدأ ليرمّم الثقة المفقودة بين أمريكا والعرب. أما «المشاريع الإقليمية» التي تُخضع العرب لجيرانهم، فلن تكون سوى مشاريع دائمة لزعزعة للاستقرار. * ينشر بالتزامن مع النهار العربي