حينما يندهش العقل وترتفع سطوته وتنصهر ملكاته الإبداعية سرعان ما يبعث بنسخ ضوئية للقلم ليترجمها في سطور فياضة، فإما أن تكون مفاهيمها متعرجة على ورق مبلل يقرأها الناس فلا يجدون لها قيمة أدبية وجمالية فتزول أحبارها وتبلى أوراقها، رغم عمقها العلمي والفلسفي، أو تنطلق كالنار في الهشيم في رحب هذا العالم الكبير، وتلقى قبولاً واسع النظير. فبناء الشخصية الأدبية المميزة بمختلف فنونها سمات لا يهتم بها بعض ممن يمتهنون العلوم والفلسفة فيطلقون أفكارهم وتجاربهم مجردة من البراعة الأدبية في الوصف وجمال التعبير الأخاذ، فلا يذكي في نفوس الآخرين القبول والرغبة في النقاش والسجال الحر، وأحياناً لا يُلتفت إليهم عدا بعض المتسلطين بأقلامهم وبمنهج نقدي صارم. والتجارب الهادرة لهؤلاء النُخب لم تكن أغلبها ناتجة عن زلات عقل وتضاد منهج أو انتكاسة فكرية، ولكن نكراناً منهم لفكرة التلاقح والتقابل بين الثقافتين، اعتقاداً أن ذلك يفضى لسطوة المشاعر وإخراج المنهج عن جوهر الفكرة، كمن يصورون للناس كوامن الذات والروح، وما يحيط بها من أسباب وعلل بالمعنى الفكري أو الفلسفي، وبتأملات مطلقة ترمي نحو تأويل نهضة ثقافية جديدة، ولكن دون إجادة في الصياغات الأدبية!. والمقيد الصارم بأنساق ومنهجية معلبة جاهزة، وكلاهما لا يتركان أثراً للمتلقين لافتقارهما لبراعة العازف للقلم، فكما أن الفيلسوف صانع في مهنته فالأديب الماهر أيضا فاتن في حل لجة المعضلات المعقدة لصلابة الفلسفة وغموض الفكرة إلى سهولة التعاطي والتآلف الممتع للقارئ، ودون هذا الاتصال والتقابل بين الثقافتين تظل ضبابية فكر الكاتب قائمة، وتنعدم مسوغات الجوانب الجمالية لها، ويدخل المتلقي في دوامة الفقر الثقافي والروحي والغموض والحيرة أو التجاهل الساخر، فالخاص من القراء يملكون قواعد حاكمة خاصة وروح نقد لا يستهان بها، والعامة لا ترغب الدخول في معضلات فكرية معقدة الفهم، ولكن لديهم أيضاً قوالب نقد جاهزة. إن اكتساب مهارات الفن الأدبي الرفيع لصناع الفكر والفلسفة والعلوم التطبيقية والاجتماعية، وغيرها يعد ثقلاً ثقافياً هاماً يضيف للمعرفة أبعاداً ذكية، ويمنح المتلقين عصارة علمية تولي لهم أهمية قبولها ودعمها، وأيضاً تجعله أكثر ذكاءً في إشعال كوامن الروح والعقل من خلال براعته في التعاطي الأدبي بفنه المتنوع ببساطة بالغة الأصالة، دون هدر للقيم الإبداعية الفكرية له.