في هذا العهد الزاهر، عهد أميرنا الشاب محمد بن سلمان، تراجع بعض مشايخنا عن التَّشدُد والغلو. واعترف بعضهم بأنهم ضيقوا على الناس وخنقوهم. فدورهم لم يكن يقتصر على تحريم المختلف عليه، بل حرموا حتى المباح. لا شك أن تحريم المباح والمختلف عليه سيجعل المسلم يجد صعوبة في أنه يتجنب هذا المحظور. فلو كان هذا المُحرِّم هَمُّه دين الله لاختار من الأحكام الأيسر، حتى يضمن التزام الأتباع بها. إذن، ما هو سر التَّشدُد والغلو؟ إنه «الأنا الإنسانية». هذه الأنا تقتات على المقارنات، وتعشق رؤية الآخرين يعانون وتطرب لفشلهم. فأنا عندما أُصعِّب الأمور عليك فإنني أنتفش عندما أقوم أنا بتلك الأمور مقابل فشلك في القيام بهم. هنا تتحصل الأنا على سبب للعلو، وشوفة النفس، والتَّميز الديني، والنَّعت بالتقوى والالتزام. ولا تغيب عن بالي قصة قديمة حصلت مع قريبة لي. تلك القريبة طلبت من شيخ أن يبين لها المحاذير التي يجب أن تتجنبها أثناء قضائها العِدَّة بعد وفاة زوجها. لقد أصاب ذلك الشيخ الجميع بصدمة، لأنه وباختصار قد حرم عليها كل مظاهر الحياة. ومما أتذكر فهو قد حرم عليها الطيب، والعطر، والبخور، وحرم عليها أن تغتسل بالصابون، وألا تغسل رأسها بالشامبو، وحرم عليها الخروج من بيتها حتى للضرورة، وأن تقلل الاختلاط بمن هم حولها، وأن يكون باب بيتها مغلقا كل الأوقات. فدخلت المسكينة صومعتها ولم تخرج منها إلا بعد انتهاء مُدة العِدَّة. إن اختفاء مظاهر هذا التَّشدُد دليل بأن أصحابه قد تحصلوا على ما يسميه «إكهارت تولي».. consciousness.. أي الوعي. فالشخص يوصف بأنه واعٍ حينما يمر بعملية الاستيقاظ، فهو قد استيقظ من الحال التي كانت الأنا خاصته (حقه) هي المُسيِّرة له، والمتحكمة في أفكاره ومشاعره وتصرفاته. فما هي الأنا؟ إن الأنا حسب إكهارت تولي، مؤلف كتاب: الأرض الجديدة، هي التماهي مع الأفكار التي قد بُرمج الإنسان بها منذ طفولته المبكرة، ففي كبره يصبح هو رهينة لهذه الأفكار، فهي تُسيِّره، وتتحكم في سلوكه وأقواله وأفعاله،وهو يفعل كل هذا دون أن يشعر بأنه مُختطف. ربما يقول قائل بأن وعي المُتشدِّدين لم يحصل نتيجة لتطورات ذاتية، بل حصل بفعل عوامل خارجية. إن الوعي الناتج عن عوامل خارج الذات هو وعي زائف، سرعان ما يوصف صاحبه بالنفاق. أما الوعي المُتجذِّر من الذات فإن صاحبه يتحلى بصفات إيجابية تنعكس سلاماً وراحة بال على صاحبها، وتنعكس ألفة ومحبة على كل منهم حوله. فالواعي مصطلح مع ذاته إذ هو متقبل لها بكل ميزاتها ونقائصها. وغير متناقض في آرائه التي تنطلق من ذاته المُتجرِّدة والباحثة، ولا يبحث عن رضا الجمهور، فرفعته وعلو شأنه ينبعان من داخله، ويعشق الحياة ويمجدها، وبالتالي لا يُبشِّر بما يجعل الناس في خصام مع حياتهم الدنيوية. ويحارب إضفاء القداسة على آرائه، لأنها عنده ليست سوى وجهات نظر، وأنها لا تمثل الحقيقة. ويحبب الناس في كل ما فيه خيرهم وصلاحهم، وينهاهم عن كل ما فيه أذيتهم وتعاستهم؛ وهو في كل هذا، يراعي عجزهم، ولا يحملهم ما لا طاقة لهم به؛ فهو ليس في تحدِّ معهم، تحدٍ دافعه الخفي، إشباع نَهم أناه غير الواعية. وفوق هذا كله، فهو إنساني، أي أنه يسعى لإسعاد الإنسان يتعاطف مع مُلمَّاته، مهما كان لون هذا الإنسان أو عرقه أو جنسيته أو جنسه أو دينه أو طائفته، لدرجة أن هذ الإنسانية الطاغية تفيض على كل المحيطين به.