الثورات تأكل أبناءها؛ جملة رددها الكثير من الناس وفي أماكن مختلفة على مر التاريخ؛ عبارة لا يفهمها كل شعوب العالم؛ بل فقط الشعوب التي اكتوت بتجارب الدكتاتورية المقيتة؛ وكيف أن الإنسان يعتقل ويعذب وينفى ثم يقتل حيا بعد أن يدفن بتراب وطنه؛ فنحتاج إلى من يوثق هذه القصص؛ لكي تدرك الأجيال القادمة أن العالم قد مر بتجارب الدكتاتوريات المتعفنة، وأبرزها البعث وحقبته اللعينة؛ عند ذاك سنخرج جيلا فاهما مطبوعا على عقله عبارة......البعث كان هنا. قبل 32 عاما وفي مثل هذه الأيام كانت الانتفاضة الشعبانية في العراق؛ وكانت مدينة النصر في محافظة ذ قار إحدى مدن الانتفاضة؛ شارك أغلب شباب المدينة فيها؛ ولظروف إقليمية أجهضت وبقسوة، وتم اعتقال أغلب المنتفضين، والبعض منهم اتخذ طريق الهجرة إلى إيران أو السعودية. كان سالم ورحمن هما الولدان البكران لأم سالم قد شاركا في الانتفاضة؛ وتم اعتقالهما واقتيادهما إلى الرضوانية. بدأت أم سالم - وأبو سالم- الذي كان يعمل موظفا بسيطا في بلدية النصر رحلة البحث الطويلة عن ولديها في سجون النظام البعثي، واستنفدت كل ما تملك في بذل المال والوقت في إيجاد بصيص أمل ولو وهمي في إيجاد مكان احتجازهم؛ بدأت تدفع الأتاوات لضباط الأمن والمخابرات في بغداد لكن دون جدوى. مرت سنوات وبدأ العوز والفقر يمخر هذه العائلة، حيث تم قطع بطاقتهم التموينية وقطع راتب العائلة الوحيد لأبي سالم؛ بدأ الفقر والعوز يأخذ مداه فيهم ويستنفد قواهم، بعدها تم اعتقال أبو سالم أكثر من مرة وتم تعذيبه في سجون أمن ذي قار؛ وبدأت أم سالم بالبحث عنه أيضا؛ إلى أن عثرت عليه مريضا عليلا وخرج بعدها من السجن، ثم ما لبث طويلا وفارق الحياة على إثر الكبت والحزن وألم فراق أولاده؛ رحل شابا بعد أن أكل البعث قلبه وجسده معا عام 1994. استمرت قصة المرأة المجاهدة أم سالم في تحمل فراق زوجها وولديها، وكذلك صعوبة توفير لقمة العيش لأولادها القاصرين من جهة؛ وأخرى؛ مضايقات النظام البعثي لها وأولادها القاصرين. لم تستسلم للقدر يوما ما؛ أصرت على أن تكون قوية؛ كما عرفها الجميع، كانت تنظر إلى البعثيين بنظرة حقد كلما طرقوا الباب عليها يسألوها عن ابتزاز أو أتاوة، وهذه عادتهم القذرة في إذلال العوائل المعادية لهم. مرت السنوات وهي تعاني بين نارين نار الفراق ونار العوز والفقر، وقلة الناصر والمعين، فهي لا تملك قبرا لولديها ولا تعرف أين هما وفي أي سجن أو حتى أي معلومة عنهما. سقط الصنم والبعث معا سقوط الجبناء، استعدت أم سالم للبحث عن ولديها لعلها تجدهما من الأحياء أو الأموات، لتدفنهما بالقرب من أبيهما، لكن دون جدوى، مر 20 عاما بعد التغيير وهي تعيش الحلم والفراق معا، ولم تعثر على أي دليل إليهما كابدها الحزن والمرض إلى أن خطف الله روحها النقية دون أن تحقق حلمها، رحلت أم سالم وهي تبحث عن ابنيها اللذين ضاعا بين المقابر الجماعية ودهاليز البعث المجرم. رحلت وهي تشكو إلى الله حسرتها لعل من يضمد تلك الحسره قد تجده أمامها يوما ما في جنات الخلد، عندها ستشتكي إلى الله ما لاقت من عذاب طوال سنين. إنها حكاية من الزمن الجميل !